إدلب والغوطة الشرقية: التوقيت والدلالات



مع انتهاء المعركة الكبرى ضد “تنظيم الدولة الإسلامية”، بدا واضحًا أن النظام السوري وإيران لن يقبلا ببقاء الوضع العسكري، على ما هو عليه، في بعض مناطق خفض التوتر.

لقد أعلن مستشار المرشد الإيراني علي أكبر ولايتي، قبل نحو شهرين، أن الهدف بعد تنظيم الدولة هو محافظتا الرقة وإدلب، ثم جاء تصريح وليد المعلم ليقطع الشك باليقين، حين أعلن أن الوضع الحالي في بعض مناطق خفض التوتر لا يناسبنا.

بسبب قوتها العسكرية والحماية الأميركية، لا يستطيع النظام وحلفاؤه فتح معركة كبيرة مع “قوات سورية الديمقراطية”، وبسبب ملاصقتها للأردن وقربها من “إسرائيل” لا يستطيع النظام أيضًا فتح معركة كبرى في الجنوب.

وكان واضحًا، منذ السيطرة على البوكمال، أن إدلب وريف حماة الشمالي والغوطة الغربية هما الأهداف البارزة في هذه المرحلة، حيث أفضت التفاهمات الدولية المضمرة على وضع مناطق غرب سورية تحت هيمنة النظام.

كانت المدة الزمنية الفاصلة بين انتهاء المعارك الاستراتيجية في دير الزور وإطلاق مسار التسوية الجدي، سواء في جنيف أو في مكان آخر، هي مدة ضرورية بالنسبة إلى المحور الروسي، للسيطرة على الجيوب الجغرافية الباقية بيد المعارضة في مناطق غرب سورية.

هذا ما يفسر عدم نشر روسيا وإيران قواتٍ عسكرية على الحدود الإدارية لمحافظة إدلب من ناحية حلب، وترك منطقة شرق سكة حديد الحجاز تحت حماية العشائر المحلية، وهذا ما يفسر انطلاق معركة الغوطة الغربية، وتكثيف القصف الجوي والخناق الاقتصادي على الغوطة الشرقية.

لا بد للمحور الروسي من تضييق الخناق العسكري والسياسي على المعارضة، قبل انطلاق مسار التسوية الذي يختلف هذه المرة عن المرات السابقة، وهذا التضييق على المعارضة -وإن أتى من البوابة الروسية- يحظى بدعم أميركي، وربما بدعم أممي عبّر عنه دي ميستورا في الجولة الأخيرة من مفاوضات جنيف.

إن قراءة “خطة السلام من أجل سورية” التي وضعتها مؤسسة (راند) الأميركية، على أربعة مراحل، تؤكد أن ما يجري على الأرض في سورية، منذ اتفاق مناطق خفض التوتر مطابق لما جاء فيها.

مرحلة دعم المعارضة عسكريًا انتهت، والاتفاق على حل سياسي شامل أمرٌ بعيد المنال، ولأجل ضمان استمرار اتفاق خفض التوتر، من الضروري استكمال سيطرة النظام على بعض الجيوب غرب سورية، حسب خطة (راند).

في هذا الإطار، تأتي معركة إدلب وريف حماة الشمالي، لا من أجل السيطرة الكاملة على محافظة إدلب، فهذا أمرٌ لا يستطيع النظام وحلفاؤه تحقيقه في هذه المرحلة، وإنما لتحقيق عدة أمور:

أولها، من شأن السيطرة على شرق محافظة إدلب، بما فيها مطار (أبو ظهور) العسكري، أن تجعل المناطق الشرقية من المحافظة، منطقة عسكرية متقدمة للنظام، وتقطع تواصل المعارضة بين شرقي إدلب وريف حلب الجنوبي الغربي. ولمنطقة شرق سكة حديد الحجاز أهمية خاصة، كونها بوابة العبور إلى إدلب عبر ثلاثة محاور (سنجار، أبو الظهور، تل الضمان).

ثانيهما، السيطرة على الطريق الدولي حلب – دمشق، ولهذه السيطرة أهمية كبيرة، من الناحية الرمزية ومن الناحية الاقتصادية.

ثالثهما، دفع فصائل المعارضة إلى مغادرة الريف الشمالي لحماة الذي شكل على مدار السنوات السابقة عبئًا كبيرًا على النظام.

رابعهما، تطويق الفصائل من داخل المحافظة، والاستعداد للجولة الأخرى التي ستضع بلدتي (كفريا والفوعة) نصب أعينهما.

إن سرعة سيطرة قوات النظام على أعداد كثيرة من القرى والبلدات، تؤكد أن الروس عازمين على إنهاء ملف شرقي إدلب، قُبيل مؤتمر سوتشي، لإخراج هذه الورقة من السجال أو من الابتزاز، بينهم وبين الأتراك.

وتبدو فصائل المعارضة و”هيئة تحرير الشام” في موقف ضعيف؛ فقد استطاع النظام خلال شهرين السيطرة على أكثر من سبعين قرية وبلدة، واستمرار هذا الضعف قد يدفع النظام إلى التفكير في ما بعد المنطقة الشرقية من إدلب.

والحقيقة أن القصف الروسي العنيف، في الآونة الأخيرة، على المحافظة، يحمل دلالة سياسية موجهة إلى تركيا، بعد حالة التوتر التي ظهرت مؤخرًا في تصريحات أردوغان وتصريحات الخارجية الروسية.

تشير المعطيات المتوافرة إلى أن الروس فشلوا في إقناع المعارضة بحضور سوتشي، ولم تقم تركيا بواجبها بما يكفي في هذا الصدد؛ ما دفع موسكو إلى الاستجابة لمطالب دمشق وطهران باقتحام إدلب، وسرعة المعارك التي ينفذها النظام توحي أنه على عجلة من أمره قبيل حدوث اتفاق روسي – تركي، من شأنه وقف هذه المعارك.

لكن الأتراك ردوا على طريقتهم، عبر إعادة فتح معركة الغوطة الشرقية، وخصوصًا إدارة المركبات في حرستا، إذ إن الفصيلين اللذين يقومان بالعملية العسكرية هما “أحرار الشام” و”فيلق الرحمن”، الأول محسوب على أنقرة، والثاني محسوب على الدوحة التي ما زالت تمتلك بعض الأوراق في الساحة السورية.

بطبيعة الحال ليس لمعركة إدارة المركبات أبعاد عسكرية استراتيجية، فهذه المنطقة محسوبة على النظام، ولا تستطيع المعارضة تحقيق مكاسب عسكرية كبيرة ومستدامة فيها، لكن أهمية المعركة تكمن في بعدها السياسي، من حيث قدرة الفصائل على أخذ زمام المبادرة وتهديد دمشق، ولو من بعيد، ومن حيث مكانة إدارة المركبات بالنسبة إلى النظام.


حسين عبد العزيز


المصدر
جيرون