الأمراض النفسية في الغوطة.. تطورات وانتكاسات



أثارت الصور الأخيرة لمشاهد القصف العنيف على مدن وبلدات الغوطة الشرقية: صورة الأب والأم اللذين يحملان ابنيهما المتوفين في إثر غارة جوية على بلدة سقبا، وصورة أخرى لرجلٍ بُتر رأسه كليًا وهو جالس على كرسيه، تساؤلات مختصين وخبراء نفسيين واجتماعيين عن كيفية استمرار الحياة بالنسبة إلى المقرّبين من هذه الحوادث المفجعة، مؤكدين أن “الوقع الأول للصدمة قد يكون باردًا، وقد ينتج عنه ردات فعل عكسية، لكن بعد مرور فترة زمنية؛ تبدأ الأعراض الحقيقية للصدمة أو المصيبة بالظهور (وفاة عزيز أو عطبه) وتؤدي أحيانًا إلى توقف الحياة الفعلية والاستسلام للمرض، وبخاصة إذا لم يتلقَ صاحبها الدعم أو العلاج النفسي”.

بحسب غزوان بويضاني، وهو الطبيب النفسي الوحيد الموجود في الغوطة، فإن المرضى النفسيين القدامى في الغوطة تراجع وضعهم كثيرًا، في حين انضم إلى قائمتهم أعداد جديدة من الأصحّاء، مؤكدًا أن أبرز العوامل التي تؤثر في المرضى النفسيين هي “العامل الأمني، يليه العامل الاقتصادي (الجوع، وقلة توفر الأدوية) والوضع الاجتماعي المشحون بشكل عام، والقلق من المستقبل المجهول”.

أضاف بويضاني، في حديث لـ (جيرون): “يعاني المرضى النفسيون في الغوطة -كحال غيرهم من المرضى- من نقصٍ شديد في الأودية والعلاجات، وقلة فاعلية الأدوية المتبقية، أضف إلى ذلك صعوبة التنقلات، فبعض المرضى الذين يقطنون في أماكن بعيدة عن العيادة النفسية، يصعب عليهم الوصول، بسبب ارتفاع تكاليف المواصلات أولًا، وخطورة الوضع الأمني ثانيًا، ويلجأ هؤلاء إلى الاستشارة الطبية عن طريق الإنترنيت، وهي ليست دائمًا مجدية”.

أردف: “من الطبيعي، أن ترتفع وتتفاقم الأمراض النفسية باضطراد، مع ارتفاع الضغوط النفسية التي يتعرض لها الأهالي في الغوطة؛ ذلك أن أوضاع المرضى النفسيين، الذين كانوا مرضى قبل الثورة، تراجعت كثيرًا، بفعل الرعب والجوع الذي يعيشونه يوميًا، وأصبح جزءًا من حياتهم وواقعهم وذاكراتهم، وقد أقدم مريضان قديمان أخيرًا على الانتحار: (امرأة مريضة اكتئاب) تفاقمت حالها؛ فحاولت الانتحار مستخدمة أدوية بجرعات كبيرة، وقد باءت محاولتها بالفشل، بعدما تمكن الفريق الطبي من إنقاذها، ومريض آخر (رجل مصاب بالفصام)، كثرت عليه الضغوط المعيشية والمادية؛ فحاول الانتحار أيضًا عن طريق الأدوية، ووضعه الصحي غير مستقر حاليًا”.

أما عن نشوء حالات مرضية واضطرابات سلوكية ونفسية جديدة؛ بسبب ظروف القصف والحصار، فتحدث بويضاني عن بروز ظاهرة جديدة أطلق عليها اسم (ميغ فوبيا) أو (الطيران الحربي فوبيا)، وهي الخوف غير المنطقي من الأصوات المشابهة لصوت الطائرات، وما يتركه هذا الخوف من تبعات نفسية خطِرة، من الممكن أن تتطوّر إلى درجة المرض. وقال في هذا الصدد: “إن معظم أهالي الغوطة -الأطفال والكبار- عندما يسمعون صوتًا يشبه صوت الطائرة، كصوت دراجة نارية، أو إغلاق بوابة الحديد للمحال بشكل سريع؛ يسيطر عليهم الخوف ويهربون دون التفكير بالأسباب، فضلًا عن ارتفاع حالات القلق والتوتر والاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة التي تصيب الرجال والنساء على حدّ سواء”.

في سياق آخر، تطرّق بويضاني إلى حال الأطفال في الغوطة، وبعض الارتدادات النفسية التي انتشرت فيما بينهم بفعل العنف والخوف والجوع، وقال في هذا الصدد: “تنتشر بين الأطفال حالات التبول الليلي اللاإدراي بكثرة، كذلك الأمر بالنسبة إلى العرّات (الحركات اللاإرادية في الوجه واليدين)، وهي دليل على التوتر والخوف”.

وأوضح أيضًا في هذا الجانب: “يوجد حالات مرضية أخرى، يعاني منها أطفال الغوطة، ليست منتشرة كثيرًا ولكنها موجودة، كتوقف التطور والصمت عند الأطفال الذين عاشوا كل حياتهم في الحرب. شاهدتُ عددًا محدودًا من الحالات التي عاش فيها الطفل برعب وتوتر بشكل دائم، لم يعش حياته كباقي الأطفال، ولم يتفاعل معهم، لذا لم يتعلم الكلام، وتكون حياة أهله على الأغلب ليست طبيعية (يقطنون تحت الأرض داخل الأقبية منذ فترة طويلة ولا يخرجون منها). صادفتُ مريضًا يعيش في قبو منذ خمس سنوات، ومنذ عام كامل لم يخرج من القبو، وأجبره أهله على الخروج أخيرًا ليزور العيادة النفسية”.

يعاني ملف الطب النفسي في سورية في الأصل -قبل اندلاع الثورة- من ضعفٍ وعجز، على مستوى الكوادر الطبية والاختصاص العلمي، وتؤكد دراسات وتقارير إعلامية أن عدد المختصين النفسيين لا يتناسب وأعداد السوريين، لكن خلال الثورة قتل النظام واعتقل عددًا منهم، وهجّر قسمًا آخر، ليصبح عدد العاملين في الحقل النفسي من أهل الاختصاص قليلًا جدًا، في هذا المعنى أوضح بويضاني: “نعاني في الغوطة من قلة المختصين والإرشاديين، وندرة المختصين بالعلاج السلوكي، يوجد أربعة فقط، إضافة إلى قلة الخبرة من الجميع في هذا المجال، الذي كان مهملًا قبل الثورة، لكن مع التدريب والممارسة، أصبح الوضع مقبولًا نوعًا ما”.

مشيرًا إلى أن “معظم الجهات الطبية التي تدعم الملفات الطبية المختلفة، تدعم عيادات الطب النفسي، غير أن الدعم بكمّه ووصوله محدود”، لافتًا إلى “وجود بعض المبادرات عن المنظمات النشطة في الغوطة، وتقدم مشروعات دعم نفسي للأطفال، ويكون إما بالنشاط الترفيهي أو العلاج النفسي السلوكي. حاليًا، يوجد ثلاثة مراكز تقدم خدمات نفسية للأطفال، غير أن هناك نقصًا في المراكز التي تقدم الخدمة للكبار، مع أن الحاجة إليها كبيرة”.

على الرغم من تدهور الوضع، فإن بويضاني يعتقد أن توقف القصف والحصار من الممكن أن يحسّن حال المرضى النفسيين في الغوطة، وقال: “الحل الجذري للمرضى النفسيين هو توقف القصف وفك الحصار، وهذه مطالبنا للمجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية، لكن -للأسف- لا يوجد محاولات جدّية لتحقيق هذين الشرطين. الغوطة الشرقية تحولت إلى سجن كبير يحوي 400 ألف مدني لا يجدون طعامًا، ويُقتلون بشتى صنوف الأسلحة”.

أبدَت عدة منظمات إنسانية، في الآونة الأخيرة، اهتمامَها بملف الطب النفسي في الغوطة الشرقية، لكثرة المآسي والفجائع التي يتعرض لها الأهالي، بفعل الحصار المتواصل والقصف الذي عاد ليبلغ أشده قبل شهر، وعدّوا أن حال أهالي الغوطة، على المستوى النفسي، فاق في خطورته وضع أهالي حلب الشرقية، قبل تهجيرهم قسرًا، منذ نحو عامين، حيث أكدت منظمات دولية حينئذ أن جلّ أطفال حلب ونسائها بحاجة إلى رعاية نفسية متوسطة إلى طويلة الأمد، بحسب شدة الحالة، كما يحتاجون إلى علاجات دوائية.

في هذا الخصوص، وقعت الجمعية الطبية السورية الأميركية (سامز)، في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، اتفاق شراكة مع جهات فرنسية، من أجل تقديم مساعدة طبية ونفسية – اجتماعية إلى الفئات الضعيفة من السكان في جنوب سورية والغوطة الشرقية، وتتضمن رعاية وتأهيلًا وطبابة للحالات المعقدة.

تبقى هذه المساعدات -على قلتها- لفتة جيدة وضرورية، من المنظمات الطبية والإنسانية التي عبرّت في معظم تقاريرها عن أن الأولوية في الأماكن الساخنة والمحاصرة تكون لذوي المرض العضال والمصابين، يليها الدعم الغذائي، تجنبًا لوقوع وفيات في إثر نقص التغذية، فيما تكون الحاجات النفسية في أسفل هرم الأولويات.


آلاء عوض


المصدر
جيرون