تجاوز الاستغلال المذهبي للصراعات مدخل لحل أزمات المنطقة



شهد عام 1979 حدثين مهمّين: الأول هو انتصار الثورة الإيرانية على الشاه والسيطرة اللاحقة للشيعية السياسية عليها، والثاني هو اجتياح الاتحاد السوفييتي لأفغانستان، وما تبعه من صعود للأصولية السنية، على نحو غير مسبوق، بدعم أيديولوجي من الأوساط الخليجية الأهلية والرسمية، ودعم عسكري أميركي لمواجهة الاتحاد السوفييتي، في سنوات الحرب الباردة. لاحقًا، طفى الثنائي المذهبي: السني – الشيعي، على سطح الأحداث والتحالفات السياسية في منطقتنا، أو صار جزءًا من مكوناتها، وما زال.

سواء بالمعنى التاريخي أو المعاصر، بتمظهره على المستوى الشعبي، أو بما يختبئ وراءه من مصالح على المستويات الأعلى، أضحى الصراع “السني – الشيعي” واستغلاله عبئًا ثقيلًا على منطقتنا، وهو يحجب طموحات شعوبها للانتقال إلى مرحلة جديدة، عنوانها التطلع نحو المستقبل، عوضًا عن الدوران في حلقة مفرغة من الاجترار والانفصام التاريخيين، فالصراع “السني – الشيعي” لا يفسر ما يحدث في منطقتنا، بقدر ما يمنع تفسيره.

يتمثل قطبا الصراع السياسي ذي الطابع السني – الشيعي، بالقيادة الدينية الإيرانية من جهة، وببعض الأنظمة الخليجية والعربية، السعودية على نحو خاص، من جهة أخرى. بالنسبة إلى إيران، واضح أن الطموحات القومية التوسعية هي الأصل، والشيعية أداتها وغطاؤها، فقد وُجدت هذه الطموحات الفارسية في السابق من دون غطاء ديني.

وبينما توجه قيادة المرشد الأعلى في إيران الأصولية الشيعية، وتستخدمها لتحقيق مصالح قومية تحت مسميات مختلفة، بعد أن حاولت، في البدايات، تصدير الثورة الإيرانية كثورة إسلامية لا مذهبية، فإنّ مركز الأصولية السنية يقع غالبًا على مستوى البنى الأهلية الخليجية على وجه الخصوص. تشترك الأصوليتان الشيعية والسنية بالعداء للغرب، وبالحرص على إبقاء الصراع المذهبي التاريخي محتدمًا لدوافع عقائدية، وإسباغ شيء من القداسة والديمومة عليه، كضرب من التفاعل بين المقدس السماوي والمصلحة الأرضية؛ ما ينتج حلقة خادعة وعدمية من ردّات الأفعال المتبادلة. في كل الأحوال، لا يحجب التناقض الحاد بين الأصوليات علاقة التضامن والتكافل بينها؛ إذ إن صعود إحداها يقوي الأخرى، وبالعكس.

العامل الأهم في كسر هذه الحلقة هو التغيرات الحاصلة، والتي قد تحصل، في البنى الاجتماعية المغذية لهذا الصراع. من هنا تكتسب محاولات التغيير في الداخل الإيراني، ومنها الاحتجاجات الأخيرة، أهمية خاصة، وذلك إلى جانب التحولات المناهضة للفكر المتطرف في السعودية وباقي دول الخليج، بنسب متفاوتة، إذ إنّ مواجهة التمدد الإيراني بالأصولية السنية أمرٌ عبثي وخاسر، وتتفوق فيه إيران بدهائها السياسي. إنّ المزيد من الإصلاحات، مثل إشاعة الحريات ولبرلة الحياة الاجتماعية في الخليج، كفيل بتعرية نظام الحكم الإيراني الديني المطلق، الذي أكثر ما يقويه وجود قطب أصولي مقابل. وهكذا، من الصعب، في الواقع، أن يحصل التغيير في طرف من أطراف هذه المعادلة إلا بالتزامن النسبي مع التغيرات الحاصلة داخل الطرف الآخر.

تبدو الاحتجاجات الحالية أكثر شمولًا واتساعًا، ومن دون قيادات معروفة، مقارنةً بتلك التي حدثت عقب الانتخابات الإيرانية، في حزيران/ يونيو 2009 (الثورة الخضراء)، والتي اقتصرت على مراكز المدن الكبرى، وبخاصة العاصمة طهران، وقادتها نخب إصلاحية اتهمت السلطات بتزوير الانتخابات. حتى الآن، ما زال الطابع السلمي مهيمنًا على الاحتجاجات، وإن الأنباء الواردة حول حصول بعض الهجمات العسكرية تعد أمرًا مقلقًا، فالسلمية التدرّجية كفيلة بتحقيق ما لا يمكن أن تحققه أعنف الهجمات، مع أن الأنظمة المستبدة تدفع دومًا نحو الخيارات الأصعب والأكثر تطرفًا إلى الواجهة. كما أن التصريحات الحادة من قبل قادة دول معادية للنظام الإيراني، ومنها تغريدات الرئيس الأميركي ترامب، لا تخدم مصالح المنتفضين، إنما، على العكس، تستثير مشاعر قومية كامنة.

كم تتشابه الأنظمة الاستبدادية، دينية أم غير دينية! هي تدرك أن تسلطها مبني على تقسيم المجتمع وتفتيته، لذا تسارع إلى الرد على التظاهرات بتظاهرات مضادة، كأنها تؤكد أن لا وجود لإجماع دستوري عليها. إنّ تحدي أي نظام استبدادي والنزول إلى الشارع يعني أنّ الوقت قد حان لبدء الإصلاح السياسي، حتى لو كانت المطالب المرفوعة اقتصاديةً صرفة؛ لأن التداخل بين السياسة والاقتصاد قائم في آلية الحكم المطلق، ولا احتكار سياسيًا من دون مظالم اقتصادية، ستطال -عاجلًا أم آجلًا- سواد الشعب. خير مثال على ذلك هو التحول التدرّجي في الاتحاد السوفييتي، من احتكار السياسة إلى نظام امتيازات اقتصادية للجهاز البيروقراطي الحزبي-الأمني، عدّها بعض الباحثين ضربًا من رأسمالية الدولة. بهذا الصدد، نذكّر بأنّه كان للمسؤولين السوفييت مستشفياتهم الخاصة المجهزة بأحدث التقنيات الغربية، ومخازنهم التي كان يتوافر فيها كل شيء، في حين يقف الأهالي في طوابير طويلة للحصول على سلعة مقبولة.

بمحتواها الاقتصادي-السياسي، تضع الاحتجاجات المتصاعدة إيران على درب استحقاق لا بدّ منه، وسواء نجحت الانتفاضة الحالية أو فشلت، فهي خطوة مهمة على طريق تجاوز نظام سياسي-ديني مطلق، متمثلًا برمزه الأعلى: الولي الفقيه والسلطات المنبثقة عنه، وبخاصة سطوة الحرس الثوري وأجنحته الممتدة في أرجاء المنطقة. وإن الطابع الشعبي للاحتجاجات الإيرانية الحالية قد يغري بالتلاعب بها من قبل أحد الطرفيين المتنافسين في القيادة الإيرانية، الإصلاحي والمحافظ، أو من كليهما، غير أنه، في حال تبلور قيادة حكيمة للاحتجاجات، فإنها يمكن أن تستفيد أيضًا من هذا التنافس. على العموم، في الانتفاضات الشعبية، كما في الحروب، لا تتحكم البدايات بمآلات النهايات، التي تبقى مفتوحة على كافة الاحتمالات.

من المرجح استمرار حالة التمذهب في المدى المنظور، فتراجعها مرتبط بالانتقال إلى مرحلة أخرى، تسود فيها المواطنة وحرية الاختيار على أنواعها، إنما يمكن في الوقت الحاضر فضح مصالح المستفيدين من تصعيد الصراعات على أسس مذهبية، وإصرارهم على تجهيل عامة الناس وسوقهم باتجاه صراعات عدمية. ومن حسن الحظ أن بعض التحالفات المستجدة بين دول المنطقة وجهت ضربة قاصمة لمذهبة الصراعات والقائمين على تسعيرها، وأعادت حقيقة غلبة المصالح في العلاقات بين الدول؛ على سبيل المثال، التوافقات التركية-الإيرانية، والتقارب القطري-الإيراني.


منير شحود


المصدر
جيرون