الفساد يزدهر مع ازدياد الطلب “الديري” على البطاقة الشخصية



تمثل رحلة السوري، في الوصول إلى آخر إجراءات إنجاز بطاقته الشخصية (التبصيم)، إنجازًا تراكميًا، يتحقق بعد اجتياز عشرات أدوار الانتظار اليومية للوصول، إما إلى شباك قاعدة البيانات، أو شباك البيانات الفردية والعائلية، أو شباك تصحيح البيانات حاسوبيًا، أو نافذة المدير، من أجل ختمٍ، أو انتظار انتهاء فنجان قهوة الموظف أو سندويشته، فضلًا عن رحلة البحث عن مختار، أو انتظار “مساعدٍ” في المخفر ينظم الضبط اللازم، من دون أن تدفع المعلوم.

في الطابق الأول من مديرية الأحوال المدنية لمحافظة مدينة دمشق، في بهوٍ لا يزيد طوله عن خمسة أمتار، يتدافع العشرات -يوميًا- من أبناء محافظة دير الزور رجالًا ونساء، أمام نافذتين، بانتظار الانتهاء من آخر إجراءات إنجاز البطاقة الشخصية (التبصيم)، لمن حالفه الحظ، أما من لم يحالفه، فإنه يحتاج إلى يوم آخر، يبدأ في الثامنة والنصف صباحًا حتى انتهاء الدوام في الساعة الثالثة والنصف عصرًا، وسط أمل ضعيف بالوصول إلى نتيجة في اليوم التالي، فلا دور محفوظًا أو منظمًا للمواطن، ولا موعد محددًا لانتظاره، ولا زمن لإنجاز الطلب ولا أتمتة لحفظ الحقوق، ولا آلة تمنح كل طالب خدمة وقته، ولا مسؤول يتحرك لإنهاء نوبات الهيستريا التي تصيب الناس التي تنتظر وتنتظر، في سبيل إنجاز متطلبات الأوراق النظامية المطلوبة منه، كي يتحرك في بلده.

يقول حسن العلي (اسم مستعار) إن أوراقه سليمة؛ إذ إنه استخرج (إخراج قيد)، ويوجد لديه رقم وطني، وختَم الصورة من المختار، وصدّق الختم من البلدية، ودفع رسم البطاقة الشخصية لأول مرة (وقدره ستة آلاف ليرة سورية)، ويرافقه ولي أمره.. وبعد كل ذلك؛ يجب عليه الانتظار أو إيجاد سمسار لكي يبصم على الهوية أمام الموظف، ويحتاج تجاوز هذه النقطة إلى مبلغ مؤكد يكون مدفوعًا سلفًا، يراوح بين 5 إلى 10 آلاف، وإلا؛ فإن دورة زمن الانتظار اللانهائي هي المصير في هذه النقطة.

الموظف “أبو جعفر” الذي يجلس عند الشباك قبل الأخير، وهو المسؤول عن إجراءات التبصيم، يخلق حالة الازدحام، عبر التباطؤ بالإجراءات، في الوقت الذي يدخل فيه من دفع المعلوم من الباب، ويبصم على استمارة البطاقة الشخصية بسرعةٍ تثير بصمت غضبَ معظم من ينتظر لساعات وساعات.

في حادثة أخرى، يبيّن “أبو جعفر” أنه جاء يومًا كشاهد، لصالح صاحب البطاقة الشخصية الذي أعطى الأوراق للشرطي الذي يتعامل مع الموظف “عبد العزيز” الذي يعمل في كوة خدمة النساء مع موظفة أخرى، حيث يقوم الموظف بالاتجاه إلى النافذة المجاورة، وتجهيز الاستمارة، ومن ثم المناداة على صاحب العلاقة؛ فيتقدم ويبصم ويخرج “المبلغ المعلوم” الذي يتم إيصاله بهدوء، عن طريق الشرطي الذي يقتسم “الغلة” مع الموظف، بعد انتهاء الدوام.

إدارة يرتشي رجالها ونساؤها

إلياس الهواس (اسم مستعار) بيّن أنه انتظر صدورَ البطاقة الشخصية شهرًا، وعندما خرج من قاعة البيانات الحاسوبية، لم تحمله قدماه فرحًا وسعادة، فقد وجد أن بطاقته مطبوعة، وظن أن معاناة انتظاره السفر إلى لبنان ستنتهي! وبالرغم من الازدحام في الطابق الأرضي لبناء الأحوال المدنية في دمشق، فإن الموظفة المسؤولة قالت له إن البطاقة لم تصل بعد؛ فوقف حائرًا، لولا الشرطي الذي يقف عند الباب فغمز له، وأشار بأصابعه الخمسة، فخرج من الغرفة ونقدَه خمسة آلاف، بجانب الحمام المواجه، ليعود إلى غرفة الموظفة، ويعطيها وصل الهوية، فتسلمه البطاقة الشخصية.

يبيّن حسين الياسين (اسم مستعار) أن بيانات ابنه لم تؤتمت حاسوبيًا، ومع أنه أنجز كافة الأوراق، وبَصَم، فإن بطاقته الشخصية لن تصدر قبل إتمام عمليات إدخال بياناته حاسوبيًا، وبالتالي الحصول على رقم وطني. مبينًا أنه ينتظر منذ شهرين الحصولَ على رقم وطني، وخلال ذلك قدّم ثلاثة طلبات لإدخال بيانات ابنه حاسوبيًا. ويوضح حسن العلي (اسم مستعار) أن بعض السماسرة أبلغه أنه إذا لم يدفع مئة ألف ليرة؛ فعليه الانتظار وقتًا إضافيًا، قد يمتد شهورًا.

تختلف طريقة تسريع إجراءات الرقم الوطني أو البطاقة الشخصية عن باقي الإجراءات؛ فهذه يتم تنفيذها من خلال سماسرة، يديرون هذه العمليات في مقاهي المرجة، ويعقدون اتفاقات مع المواطنين، تتضمن إنجاز المعاملات بمدة محددة لقاء مبلغ محدد.

يكشف السمسار “علي إسبر” (اسم مستعار) أن الآلية تقضي، بعد الاتفاق وقبض كامل المبلغ، إرسالَ صورة وصل البطاقة الشخصية الذي يتضمن: “الاسم وتاريخ التبصيم واسم وتوقيع الموظف”، إلى شخص محدد؛ فيتم سحب استمارة التبصيم من المغلفات، ووضعها بالطباعة، بعد استكمال تواقيع مدير الأحوال المدنية ومعاون وزير الداخلية، وتشير أغلب الروايات إلى أن من يدير شبكات السماسرة شخص في موقع قريب جدًا من معاون وزير الداخلية.

ويوضح السمسار “إسبر” أن حصته من العملية لا تتجاوز الـ 10 آلاف ليرة، من الـ 100 ألف الخاصة بتسريع صدور البطاقة الشخصية، و15 ألف من ثمن الرقم الوطني، والذي يراوح بين 100 إلى 150 ألف.

ووفقًا لمصادر داخل المديرية العامة للأحوال المدنية، فإن عدد طلبات البطاقة الشخصية التي تنظم يوميًا، لصالح محافظة دير الزور، تصل إلى 300 طلب، وأن عدد البطاقات التي تطبع يصل إلى 500 بطاقة.

وتؤكد المصادر أن سبب التأخر في إصدار البطاقات الشخصية يعود إلى زيادة عدد العائلات الوافدة من دير الزور، وتعطل طابعات الأحوال المدنية، وأن طابعتين فقط تعملان الآن، وأن معاون وزير الداخلية للأحوال المدنية قد نقل مركز الإصدار إلى مكان قريب من مكتبه، حتى يضمن تسيير جزء من المعاملات.

وأكدت المصادر أنه تم الانتهاء من طباعة البطاقات الشخصية لشهر تشرين الأول/ أكتوبر، وبدئ بتنفيذ طلبات البطاقة الشخصية لشهر تشرين الثاني/ نوفمبر.

الفساد يتمدد كظل للحرب في ردهات الإدارات الحكومية السورية، على امتداد مساحة الأرض التي يهيمن عليها جنود الأسد الثاني. وقد انتعش الفساد في الأشهر الستة الأخيرة، كما لم يشهد نموًا مشابهًا من قبل، فالرشوة مصدر ثروة الموظفين المحظوظين، ممن فتحت لهم نوافذ الاتصال بالجمهور. وأصبح للرشا فنون ومعارف وعلوم في الوصول إلى جيب المواطن الذي نجا من الموت، في حرب كرسي الرئاسة فيها هو المولد الأساس للفساد.

كرسي الرئاسة الوراثي الذي تثبته أجهزة الاستخبارات، والميليشيات الطائفية الشيعية اللبنانية والعراقية والقوات الإيرانية والروسية، أتحف السوريين بنموذج جديد من الرشوة بالإكراه.

فكما أصبح كرسي الرئاسة مركبًا يبحر في خضم دماء السوريين المطالبين الحرية؛ أصبح اللصوص الصغار، في معظم مفاصل السلطة، ينهبون الناس في المقار الحكومية والإدارية، بشكل يشبه في حركته حركة كرسي الرئاسة الدموية.


جيرون


المصدر
جيرون