جهل بالعلمانية أم تجهيل؟



في افتتاحيته للعدد الأخير من المجلة العربية لعلم الاجتماع “إضافات” (العدد 40، خريف 2017)، يتحدث الصديق ساري حنفي عن مفهوم هندسة الجهل أو “التجاهلية” الذي طوره روبرت بروكتور. فالجهل ليس “انعدام المعرفة” فقط، بل هو “مُنتَج” يتم صنعه وتوزيعه لأهداف معينة، غالبًا ما تكون سياسية أو تجارية، وهو تضليل استراتيجي وممنهج، يستند إلى ثلاث استراتيجيات: بث الخوف؛ إثارة الشكوك؛ وصناعة الحيرة. وتوفر دراسة “التجاهلية” إطارًا يمكن من خلاله استكشاف الأشياء التي لا يدركها الناس عمدًا، والسعي للحفاظ على غياب الوعي (الجهل المتعمد) والأشياء التي يدركها الناس؛ ولكن مع ذلك يعبّرون عن غياب الوعي فيها (الجهل المعلن). وتشير “التجاهلية” إلى نظرية الجهل الاجتماعي التي تفترض أن الجهل منتشر، وأنه يتركب اجتماعيًا، وأنه يمكن أن يكون مفيدًا للسياسيين. فالجهل، من هذا المنظور، ليس “إغفالًا بسيطًا أو فجوة”، ولكنه “شيء يتم الحفاظ عليه والتلاعب به”.

خطر لي، وأنا أقرأ مقالة ساري هذه، ما تعرض له مفهوم العلمانية من “تجاهلية”، من قبل جهات متعددة، ولأغراض متناقضة، ولا سيّما في البلدان العربية.

ولعل الإسلاميين العرب -بممثليهم وفئاتهم ومنظماتهم المختلفة- كانوا أول من نشر الجهل بشأن العلمانية في بلادنا، حيث ساووا بينها وبين الإلحاد والكفر. ولا أشك في أن بعضهم، ولا سيّما القادة والمفكرين، كان يعلم علم اليقين أنه بهذا يكذب على الناس ويضللهم ويجهّلهم عمدًا، تحقيقًا لهدف محاربة كل من يعترض على شعار “الإسلام هو الحل”، وكل من يدعو إلى حرية الضمير والاعتقاد.

وتدّعي الأنظمة الاستبدادية أنها أنظمة علمانية، كونها “تحمي الأقليات الدينية والمذهبية”، من هيمنة الأكثرية، في وقتٍ تمارس فيه أبشع أنواع القمع والتنكيل والتعذيب لكل من يعارضها، بغض النظر عن دينه أو مذهبه أو طائفته. ويقدم لنا بشار الأسد وطغمته أوضح مثال لتصنّع الجهل والإنكار. فهو ينكر علنًا وجود معتقلي رأي في سجونه، وينكر معرفته أن هناك من يقتل تحت التعذيب في أقبية مخابراته، وينكر أنه استخدم الأسلحة الكيماوية في الغوطة الشرقية وخان شيخون وغيرها، على الرغم من تقارير خبراء الأمم المتحدة وقرارات المنظمات الدولية، وينكر أن طياراته تلقي البراميل المتفجرة على المدن والبلدات السورية، على الرغم من الصور التي تبثها وكالات الأنباء كل يوم. ويدعي، مع كل ذلك، أن نظامه علماني يحمي الأقليات.

ويدعي سفير الإمارات العربية المتحدة في واشنطن أن المملكة العربية السعودية ستصبح “دولة علمانية” في القريب العاجل. ألم تسمح للمرأة بقيادة السيارة؟ ألم تقرر افتتاح دور للسينما؟ إذًا هذه علمانية.

هل هو جهل بالمعنى الحقيقي للمصطلح؟ لا أظن ذلك. بل هو هندسة للجهل، تصنيع للجهل. هو تجهيل متعمد لأغراض تتعلق بالسيطرة على السلطة السياسية والحفاظ عليها، من قِبل جماعات وأنظمة تجاوزها التاريخ، ولا يمكنها تحقيق تلك الأغراض إلا بمواصلة تجهيل الناس.

العلمانية، أيها السادة، تعني، أن لا تتدخل السلطة الدينية في شؤون السلطة السياسية، أي الدولة. والدولة ينبغي أن تكون محايدة تجاه العقائد والأفكار والمذاهب، فلا تفرض على مواطنيها عقيدة أو دينًا مذهبًا. وهذا يعني أن العلمانية تدعو، قبل أي شيء آخر، إلى حرية الضمير أو حرية الاعتقاد. وهي بهذا المعنى لا تتحقق، ولا تغدو نهجًا للحياة في مجتمع ما، إذا لم يتمتع أفراد هذا المجتمع ومنظماته بجميع الحريات الديمقراطية، بما في ذلك حرية التدين، وحرية التعبير، وحرية التنظيم النقابي والتنظيم السياسي… وغيرها. وبهذا المعنى، لا يمكن أن يكون نظام سياسي ما مستبدًا وعلمانيًا في الوقت ذاته. الاستبداد نقيض العلمانية، كما هو نقيض الحرية. بل إن مهمة الدولة في العلمانية هي حماية تلك الحريات.

من ناحية أخرى، يمكن للمرء أن يكون متدينًا وعلمانيًا في الوقت ذاته. أي أن يؤدي شعائره الدينية كما يشاء، ولا يفرض على غيره تأدية الشعائر نفسها، بل يؤمن بحق كل فرد في أن يعتقد بما يشاء، وفي أن يؤدي الشعائر التي يريد، أو أن لا يؤدي أي شعائر.

في الدولة العلمانية، للحركات والأحزاب الإسلامية -بوصفها حركات سياسية وليس حركات دعوية دينية- الحقُّ في العمل السياسي، جنبًا إلى جنب مع غيرها من الحركات والأحزاب السياسية الأخرى، وأن تخوض الانتخابات مثل غيرها، على أن تؤمن بالحق نفسه لغيرها من المنظمات والأحزاب، وأن تلتزم بضمان هذا الحق بعد فوزها بالسلطة، دون أن تفرض رؤيتها للنظام السياسي ومبادئه، ودون أن تحاول إجراء تغييرات في الدستور أو القضاء أو القوى العسكرية والأمنية، بما يضمن الحفاظ مع تلك الرؤية.

ومن المهم أن نؤكد هنا أن مفهوم العلمانية (نسبة إلى العالَم وليس إلى العِلم) تكوّن كنتيجة لصيرورة تاريخية طويلة، انفصل خلالها الديني عن الدنيوي تدريجيًا، في ظروف متنوعة. صارت شؤون الدنيا (أو العالم) تدار من قبل مؤسسات مدنية، بدلًا من المؤسسات الدينية التي كانت تنظر إلى العالم بمنظار الدين، وتعمل على إدارة العالم بما تعدّه سلطة الدين. ولهذا السبب، ونظرًا إلى اختلاف المراحل التاريخية التي تشكل فيها المفهوم، واختلاف البلدان التي اعتمدته؛ فقد فُسّر مصطلح العلمانية بأشكال مختلفة، وطُبّق وفقًا لمقاربات مختلفة. لكن تلك المقاربات كلها تؤكد على حرية الاعتقاد والتعبير والتنظيم السياسي، وكلها تؤكد على عدم تدخل السلطة الدينية في السلطة السياسية أو في حياة الناس المدنية.

في البلدان التي تتعدد فيها الأديان والطوائف والمذاهب، تغدو الدولة العلمانية ضامنًا محايدًا للسلم الأهلي، لا تنحاز لدين أو مذهب أو عقيدة. وبالمناسبة، يجدر التنبيه إلى أن الدول التي تحكمها أنظمة شمولية، مثل الاتحاد السوفيتي السابق والدول التي سميت “اشتراكية”، ومثل الدول التي حكمها “حزب البعث” في العراق وسورية، تتعارض تمامًا مع العلمانية؛ حيث إنها تفرض على المجتمع عقيدة معينة، ولو لم تكن تلك العقيدة دينية. فالعلمانية صنوُ الحرية ونقيضُ الاستبداد.


خضر زكريا


المصدر
جيرون