في مقاربة التراث



واجه كثير من الذين تصدّوا لمقاربة التراث العربي، خلال عصرنا الحديث، عددًا من المصاعب في مقدمتها ما عرف، بالمعنى المنهجي للكلمة، باسم “الضوابط”، التي تجيز قبول أو رفض أو تجريم هذه المقاربة أو تلك. وهي ضوابط أدت، على مدار العصور، دورها المطلوب في وضع سدٍّ منيع في وجه أي محاولة نقد جذرية تستهدف تجديدًا ما، سواء من خلال استعادة الأصول وقراءتها في ضوء معطيات الحاضر، أو عبر محاولة تحقيق قطيعة معرفية؛ إذ تضع النصوص التراثية ضمن حدودها الزمانية والمكانية، محاججة في إبطال مدى صلاحيتها في ما وراء ذلك. ولم تكن تلك “الضوابط” تقتصر على المسائل اللغوية أو على معاني المفردات أو على فهم هذه الأخيرة ضمن سياقاتها البيانية أو الاجتماعية أو الزمنية، من أجل فهم نصٍّ أصولي، مثل آية من الآيات القرآنية مثلًا، وصولًا إلى دلالاته في معانيه أو في مراميه أو في أمديته، بل تمَّ تجاوزها إلى محاولات شتى، في استنباط الأحكام ووضع القواعد والأحكام، لم يكن لها من غاية في نهاية الأمر، سوى تكوين سلطة تؤلف -على اختلاف الفقهاء والمفسرين- مرجعية واحدة ووحيدة تفرض على الجميع، ولا يستقيم في رأي واضعيها أي نقد من خارجها. تجدر الإشارة إلى أن ذلك لم يتم في عصر وضع هذه الضوابط وتأسيس مدارس الفقه الإسلامي المبدعة، بل في العصور المتأخرة، أي بعد توقف أو توقيف باب الاجتهاد.

مما لا شك فيه أنه لا بدّ في أي بحث علمي، جدير بهذه الصفة، من امتلاك من يقوّم به ناصية اللغة وقواعد البحث، بما يسمح بالمضيَّ في تفسير وفي تأويل النصوص، فضلًا عن استنباط أحكامها وتخريجها، ومن ثمَّ، لا يمكن لمقاربة النصوص التراثية أن تخرج عن هذه القاعدة التي لا بد أن تغتني، فضلًا عن ذلك، بقواعد فرعية ذات صلة بمجمل ما يُطلق عليه اليوم المعارف الاجتماعية والإنسانية.

على أنَّ أول ما يصطدم به الباحث في التراث العربي، والفقهي منه بوجه خاص، وجود كمٍّ مذهل من شروح وتعليقات، تراكم بعضها فوق بعض، في سلسلة تشرح الأصل، ثم يأتي الشرح على متن الشرح الأول، ومنه إلى ما تيسر من اختصار للمجمل تارة، أو بحث في غريب النص الأول المشروح تارة أخرى، أو في شرح ألفاظه، وأحيانًا في تناول بعض أبوابه شرحًا وتفسيرًا إضافيًا، بحيث يتلاشى النص الأصل -أو يكاد- وراء كل ما تراكم فوقه، فضلًا عن النص، السبب والأساس الذي كان ذريعة الشرح أو التفسير الأولى، وربما كان أحد أكبر الأمثلة دلالة على ذلك “مختصر الخرقي” الذي يلخص بين دفتيه فقه الإمام ابن حنبل وخلاصة اجتهاداته، والذي بلغ عدد شارحيه وشارحي شارحيه ثلاثمئة شرح معروفة بعناوينها وأسماء مؤلفيها.

لكن أغرب -وربما الأفضل أن نقول أخطر- ما يمكن أن يُؤخذ على بحث يتوخى صاحبه مقاربة التراث في إطار نقدي ومعرفي، ويملك كل ما يمكن أن يؤهله القيام بها علميًا، من دون الاعتماد على هذا الكم من المتون والشروح، خروجه على السلطة التقليدية المشار إليها، أو انطلاقه من مرجعية مغايرة في البحث للمرجعيات التي فرضت نفسها على امتداد اثني عشر قرنًا، تحت طائلة الإدانة بالردة أو بالكفر. وهذا بالفعل ما جرى خلال القرن الماضي، لمفكرين أرادوا المضي قدمًا في تجاوز هذه السلطة التي تجسّدت في العصر الحديث، إما في مؤسسات أنشأتها أو دعمتها السلطة السياسية، وإما في جماعات أو أحزاب دينية أرادت الاستحواذ عليها، وعملت على فرض نفسها شعبيًا وسياسيًا، بحكم تماهيها في هذه السلطة، ثمَّ الدفاع عنها بوصفها السلطة الشرعية الوحيدة.

لا يمكن في هذه الحالة تحقيق أي قطيعة معرفية مع القراءات المتراكمة للنصوص المُؤَسِّسَة من دون تجاوزها مباشرة، والعودة إلى هذه الأخيرة من أجل قراءتها مجدَّدًا، تمهيدًا لاستعادتها. كما لا يمكن -من ثمَّ- لهذه الاستعادة أن تكون ممكنة في غياب شروط أخرى، ضرورية لإنجازها. وهي شروط لم تكن متوفرة لكل الذين حاولوا حتى اليوم مثل هذه القراءة، من طه حسين وعلي عبد الرازق إلى نصر حامد أبو زيد.

ما الذي يعلل ويفرض في الوقت نفسه، في إطار أي مشروع تنويري أو نهضوي، تجاوز هذا التراث الكامل من التأويلات والتفسيرات والشروح، الذي ينظر إليه الفقهاء المعاصرون اليوم -من غير المجددين-  بوصفه كلًا كاملًا ينضوي تحت مفهوم الشريعة الإسلامية؟

من الملاحظ أن أسس الفقه الإسلامي قد وضعت، خلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين (أو القرنين الثاني والثالث الهجريين)، أي في أوج ازدهار أقوى إمبراطوريتين عربيتيْن إسلاميتين عرفهما التاريخ الإسلامي: الأموية والعباسية؛ وأن واضعي هذه الأسس من كبار الفقهاء كانوا يتمتعون بحرية واسعة في التفكير، عكستها أعمالهم وما بينها من اختلافات، في الرؤية وفي الاجتهاد وفي الأحكام. كما أن من الملاحظ -أيضًا- أن هذه الاختلافات، بين هؤلاء، تعود إلى طبيعة المرحلة التي عاشها كل منهم خلال القرنين المذكورين، وأن أي دراسة معمقة للفترة التي عاشوها، يمكن أن تُبْرِزَ إلى العيان توسع بعضهم وانغلاق البعض الآخر، مثلما تشير إلى أنهم كانوا جميعًا، على كل حال، يستجيبون معًا، وعلى تباعد المسافات واختلاف الأمكنة التي عاشوا فيها، لضرورات البحث والتفكير والتأويل التي اجتهدوا سواء في وضع القواعد أو الضوابط النظرية أو العملية، من ناحية، أو في الاستجابة لمتطلبات الوضع الاجتماعي والسياسي التي تكاثرت وتنوعت، بفعل اتساع  الفتوحات واختلاط الشعوب والثقافات، من ناحية أخرى. سوى أن هذه القراءات للنصوص المؤسسة، التي كانت، على قربها الزمني من حقبة وجودها، تستجيب في وقتها لعصرها، توقفت من بعد في حقيقة الأمر، عن الاستجابة لما كانت الظروف السياسية والاجتماعية تفرضه من وقائع جديدة، وتحولت بفعل الكسل الفكري إلى ما عرفته العصور اللاحقة من “تقليد السلف” والسير على أقواله واجتهاداته. وهو ما أدى، مع مرور الزمن، إلى رسوخ هذه السلطة المشار إليها، أي تلك التي لا تنتمي إلى عصرنا الراهن ولا تستجيب، بأي صورة من الصور، إلى ما يفرضه من تحديات على مختلف المستويات وفي كل المجالات.

لكن محاولة العودة إلى النصوص المُؤَسِّسَة وقراءتها مجدّدًا، أي تجاوز طرق ومناهج وضوابط القراءات الكلاسيكية، المثقلة بركام قرون من الشروحات والتأويلات، لا يمكن القيام بها من دون توفر شروط الحرية الفكرية التي كان يتمتع بها فقهاء القرنين الثامن والتاسع. ذلك أن تعدد السلطات الخاصة والعامة التي وقفت، وما تزال تقف، في وجه أي مشروع تنويري يعيد القراءة بعيدًا عنها وعن رقابتها وإجازتها، ما يزال هو العائق الرئيس في هذا المجال؛ إذ إن القطيعة المعرفية التي تتطلع إليها مثل هذه العودة، هي من الخطورة، بحيث لا يمكن إتمامها دون دعم كافٍ وجذري، أو ثورة تقوم هي نفسها بتأمين شروط تحققها.

بانتظار الحديث عن عناصر مثل هذه العودة.


بدر الدين عرودكي


المصدر
جيرون