موضة أمريكية ……. القدس بنكهة إسلامية ….
11 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2018
موضة أمريكية ……. القدس بنكهة إسلامية ….
د.عزة عبد القادر
كانت الكتاتيب في زمن الخلافة الإسلامية لهي الملاذ الآمن لكل من يريد أن يشرب من نبع العلم ويرتوي من معارف الفقهاء .
وقد كان لمصر مكانة عظيمة في زمن الخلافة الإسلامية فقد انتشرت بها منذ القدم الكتاتيب ودور تحفيظ القرآن الكريم، في المدن و القرى والنجوع والكفور ، فزاد عدد حفظة القرآن، وامتلأت بهم المساجد، وراحوا يتنافسون فيما بينهم في تزيين أصواتهم وتحبيرها بالقرآن. وكان المار من أمام مسجد أو مكتب لتحفيظ القرآن يسمع أزيزا كأزيز النحل.
وعندما تدخل مسجد السلطان حسن الذي يشع بالنور والجمال في كل جنباته لاتزال تجد الدوائر الثقافية للعلماء والمشايخ ، فلم يقتصر جامع السلطان حسن على حلقات تحفيظ القرآن وتفسيره ، بل امتدت النقاشات إلى أبعد من ذلك لتضم العديد من المواد العلمية والنظرية ، بل وضمت الأحاديث أيضا مناظرات أدبية وشعرية .
لا أعرف كيف لا نعلم أطفالنا مكانة الكتاتيب والمساجد ، كيف لا نربي داخلهم الحب تجاه تلك الأماكن الراقية ، لماذا نصمم على فرض تعليم القرآن الكريم بطريقة روتينية دون زرع العشق القرآني داخل قلوبهم من خلال توصيف معانيه والشغف بأماكن تدارسه .
الإسلام ليس مجرد كلمات نصمها ونرددها بدون عقل وروح ، الإسلام دين ودنيا ، ولهذا فلم تكن المباني الإسلامية سوى توصيف لتلك العقيدة ،كانت العمارة الإسلامية نموذج مثالي في نبذ العداء والعنصرية للحضارات والديانات السابقة حيث تأثر فن العمارة الإسلامية بالطراز (البيزنطي- الهلينستي- الساساني وكذلك الإغريقي) فقد تأثر فن المعمار الإسلامي بكل تلك الطرز ، وأضاف عليها سماته الخاصة ، وذلك هو التوصيف الحقيقي لما تنادي به الشريعة الإسلامية من هدم التكبر والعنصرية ، فقد سبق الفنانيين الرومانيين في مرحلة الوثنية الفنانيين المسلمين وكذلك الفنانيين المسيحيين في الدولة اليونانية والرومانية ، فليس هناك أي عقدة في الإبقاء على تلك الطرز البديعة المنمقة ، أو الأخذ منها فيما يستجد من عمائر ، ثم الإضافة عليها بأفكار ابتكارية جديدة تميز الفنان المسلم ، قال تعالى في سورة الفاتحة : (الحمد لله رب العالمين)، فإن الله رب الناس جميعا ، لم يقل رب المسلمين ، ولا رب المؤمنين ، ولا رب العرب ، ولا رب الشرقيين ، بل هو رب كل العالمين .
أيضاً آخر سورة في القرآن يقرأها المسلم ، قال تعالى:( قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس).
من جهة أخرى ، فقد كان المسجد يتخلله الصحن المكشوف المتسع ، حيث تدخل الشمس وينتشر الهواء ، حيث أراد المعمار أن يخفف على الناس في الأجواء الحارة باتباعه لقول الله تعالى : ( والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون)
إن المهندسين وعمال البنايات في زمن الخلافة الإسلامية كانوا دائما ما يطبقون الإسلام في أعمالهم ، فلم يكن القرآن عندهم مجرد كلمات يحفظونها بل ينفذون ما جاء بها ، فقد آمنوا بأن آيات الذكر الحكيم لم تتنزل على البشرية لكي تقيد الناس او تنذرهم بالعذاب ، بل جاءت لإسعادهم ، فالآيات المبشرة بالجنة كانت كثيرة أيضا ، حيث وردت آيات النعيم في مواقف ليس لها حصر، ووردت آيات المغفرة والرحمة أكثر من تسعين مرة .
لم يكتفي المعمار الإسلامي بتطبيق هذا النهج فقط بل قام بتزيين المساجد بالفسيفساء المنمقة والزجاج البراق في تناغم رائع بين الألوان المتنوعة قال تعالى 🙁 يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ، والمقصود بالمعمار الإسلامي هنا اتباع تصميم دور العبادة الإسلامية ، وليس المقصود ان يكون المهندس مسلما .
بل إنه كثيرا ما كان يتشارك المهندسين المسيحيين والمسلمين في بناء العمائر الإسلامية سواء الدينية منها أو المدنية ، فقد استعان أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية في مصر بالمعمارى المصري القبطي “سعيد بن كاتب الفرغاني”، أحد أمهر مهندسي العمارة بمصر ، وطلب منه أن يشيد له مسجداً جامعاً لا تأتى عليه النيران أو تهدمه مياه الفيضان، وبالفعل بنى له هذا المهندس العبقري أعظم تحفة أثرية لازالت تحتفظ بملامحها المعمارية إلى اليوم .
على جانب آخر نجد اتباع المهندسين في العصر الإسلامي إلى البناء الساتر في العمائر المدنية ، وذلك لأجل الحفاظ على حرمات الناس بداخل منازلهم ، ولهذا نجد تقسيم البيوت والدور المملوكية إلى قسمين أساسيين أحدهما في الطابق الأرضي حيث كان مخصصاً للرجال ويسمى (السلاملك) لاستقبال الزوار وإقامة الحفلات ، والقسم الثاني في الطابق العلوي وهو خاص بالنساء ويسمى (الحرملك ) وذلك لأجل الحفاظ على المرأة وعدم اقتحام حرمتها ، بل يضاف إلى ذلك أنه تم تصميم بوابات مخفية (سحرية ) كانت تخصص لدخول النساء لا يستخدمها الرجال ، وقد تم بناء المشربيات لكي تطل من خلالها النسوة دون أن يراهم السائرون في الطرقات ،كما ظهر المدخل المنكسر في العمائر المدنية وذلك لحجب من يجلس في فناء المنزل عن أعين الزائرين .
إذا كان يأخذنا الإبهار بالبنايات الأمريكية الشاهقة ، والتصميم الهندسي المتميز لناطحات السحاب في الولايات المتحدة الأمريكية ، ونتحدث دائما عن باريس العاصمة الفرنسية ، التي تعد مركزاً للنور والجمال ، فماذا يمكن ان نقول أمام روعة المعمار الإسلامي .
إن الطابع الأمريكي المنفتح الذي أصبح غالباً في الفيلات والمنازل المصرية لا يتناسب مع البيئة العربية رغم جمال ودقة التصميم ، بل واتساع وضخامة العمائر ، لدرجة جعلت كثير من العرب يتسارعون فيما بينهم لشراء العقارات ذات التراث الأمريكي ، يقول التجار المصريين لتسويق الأثاث والمنازل للناس إنها شديدة الجمال وتتبع الموضة الأمريكية ، أي جمال هذا وأي موضة ، وهي لا تناسبنا وليست على مقياس عاداتنا وعقائدنا ، بل انها لا تصلح لأحوال الطقس في بلادنا .
إذا أردتم أن تعرفوا طعم ورائحة الجمال فلتزوروا القدس العربية لتتذوقوا النكهة الإسلامية ، لتشاهدوا روعة البناء ، لتراقبوا تعدد الفنون والإنفتاح الحضاري ورقي التصميمات الهندسية ، والأكثر من كل ذلك مراعاة المقاييس والمساقط الأفقية وعلو الأسقف ، واستخدام ممرات التهوية والدهاليز .
إذا تمعنت في رقة العمائر الإسلامية فسوف تصاب بالإدمان الذي سيجعلك زائرا مستديما لها ، اذا تعمقت في هذا الجمال فلن يحتمل قلبك ان يصاب ذلك المعمار بأي مخاطر ، ففي تلك اللحظة يمكنك ان تفعل اي شيء لإنقاذ الأحجار والزجاج بل ستكتشف ان هذا الحجر المعماري الجميل يشبه ابنائك ، يوما ما سنعرف قيمة تلك النفائس وسنذهب لنقبلها باكيين نادمين كيف لنا لم نحافظ عليها .