“سوتشي” لشرعنة الاحتلال والاستبداد



عما قريب سوف تستضيف مدينة سوتشي ما يحلو لحكومة موسكو أن تسميه “مؤتمر الحوار الوطني السوري”، المؤتمر الغامض الذي سينعقد بعيدًا عن مظلة الأمم المتحدة، برعاية روسية، إيرانية، تركية، وبمشاركة ما يزيد عن ألف وخمسمئة من المعارضين السوريين الذين “لا يطالبون بالرحيل الفوري لبشار الأسد”، بل سيعملون على تشكيل “لجنة دستورية مرجعية”، وعلى صياغة “مشروع دستور تُقام على أساسه انتخابات حرة في سورية”.

لعل أبرز ما يميز “سوتشي” المرتقب هو الاستخفاف بالشرعية الدولية وبعقول البشر؛ لأن التعويل على الحوار والاقتراع الحر والإصلاح السياسي أو الاقتصادي، في ظل التركيبة الأمنية للدكتاتورية الحاكمة في سورية، هو ضرب من ضروب العبث الشيطاني، فلو كان نظام الأسد حريصًا على الحل السلمي وحقن دماء السوريين ومحاربة الإرهاب، كما يدعي؛ لاستمع إلى مطالب المتظاهرين السلميين، وعمل على تلبيتها منذ سبع سنين، بدلًا من أن يتهمهم بالعمالة، ويزج بكامل القوات السورية المسلحة لإسكات صوتهم الحر؛ ما أسفر عن ثورة شعب مقهور، ينادي برحيل منظومة الاستبداد، وقيام دولة مدنية ديمقراطية تصون حقوقه وكرامته.

إصرار نظام الأسد على اتباع أسلوب العنف المفرط والممنهج، في إدارة ما أسماها “الأزمة السورية”، واستدعاء حلفائه الروس والإيرانيين وميليشيات (حزب الله)، لإسناده في عمليات البطش والتنكيل بالمحتجين على سياساته التعسفية، هو من أوقد جذوة الثورة السورية، وأبقاها مشتعلة، ونقلها من طور السلمية إلى حمل السلاح، وهو من فتح الباب واسعًا لظهور “داعش” و”النصرة”، وغيرها من التنظيمات الإسلامية المتطرفة على الأراضي السورية.

لقد فقد نظام الأسد كل مسوغات وجوده من منظور الشرعية الدولية وحقوق الإنسان، منذ زمن بعيد، فبوصفه النظام الحاكم هو من يتحمل كامل المسؤولية عن جميع كوارث الدمار والقتل والاعتقال والتهجير القسري التي حلت بالشعب السوري، وبقاؤه لن يجلب أي شكل من الانفراج، بل سيعيد إنتاج المزيد من العنف، فهو أصل المعضلة، وسبب استعصاء الحل السلمي العادل في سورية.

رحيل رأس النظام ليس خطوة ثانوية، يمكن القفز عنها أو تأجيلها، في سياق مفاوضات أو مؤتمرات تبحث عن حل عادل لإنهاء الصراع في سورية، فمنصب الرئيس لم يكن منصبًا فخريًا، ولم يكتسب الرئيس شرعيته عبر صناديق الاقتراع، بل كان وريث أبيه، وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة، في جميع سياسات القمع والفساد التي أثقلت كاهل السوريين، منذ توليه السلطة قبل سبعة عشر عامًا.

بعد حوالي خمسة شهور من بداية الثورة السورية؛ أصبح رحيل رأس النظام واحدة من مسلمات الحل السياسي والانتقال السلمي إلى الدولة الديمقراطية في سورية، ليس على المستوى المحلي وحسب، بل أيضًا على المستوى الدولي، حين أعلنت دول الاتحاد الأوروبي وكندا والولايات المتحدة أن الرئيس بشار الأسد فقد شرعيته، وعليه أن يتنحى فورًا، لكن هذا التنحي الفوري تأخر سبع سنين، خلالها عُقدت الكثير من اللقاءات والمؤتمرات الدولية، وأسفرت عن العديد من المبادرات والقرارات المهمة، لعل أشهرها بيان (جنيف 1) والقرار 2254، وتم وضع برنامج للحل السياسي، يبدأ بالتفاوض بين النظام وقوى الثورة والمعارضة، على وقف إطلاق النار، والإفراج عن المعتقلين، وتشكيل حكومة انتقالية من كلا الطرفين لا يرأسها بشار، وكان وفد النظام قادرًا دومًا على تقويض كل الجولات التفاوضية بإصراره على رفض نقاش مصير الأسد، أو فتح ملف المعتقلين.

يوم الثلاثين من كانون الأول عام 2016، تم الإعلان في أنقرة عن وقف إطلاق نار شامل بين النظام السوري وفصائل المعارضة المسلحة برعاية روسية تركية، تلاه سبع جولات من المفاوضات في العاصمة الكازاخية (أستانا)، أسفرت عن اتفاقات خفض التوتر، وإدخال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة، والإفراج عن المعتقلين، وكان من المفترض أن يحمل عام 2017 السلام والحرية لسورية، لكنه انتهى كغيره بخرق سافر لجميع الاتفاقات، وبحصيلة مرعبة من العنف المفرط والانتهاكات الجسيمة التي تم توثيقها في تقارير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.

خلال العام المنصرم، لم يوقف النظام السوري هجمات سلاحه الجوي على مناطق التهدئة، ولم تتورع طائراته عن إلقاء 12958 برميلًا متفجرًا فوق التجمعات السكنية والمرافق المدنية، بعضها حوى على النابلم والسموم الكيماوية، وقد تسببت في وقوع 129 مجزرة، ومقتل ما لا يقل 4148 مدنيًا، لعل أفظعها مجزرة الكيماوي في “خان شيخون”، ثم الحملة الهمجية على الغوطة الشرقية التي بدأت قبل حوالي شهرين، وما تزال مستمرة.

وفي العام الفائت، لم يسمح النظام بأي بادرة، ولو من باب إثبات حسن النيّات، للكشف عن مصير أي من المعتقلين والمختفين قسرًا في سجونه، وهم قرابة ربع مليون شخص، بل زاد عليهم باعتقال 4796 شخصًا، بينهم 674 امرأة و303 طفل وستة إعلاميين، فيما ذهب ضحية التعذيب 211 معتقلًا، بينهم امرأتان وطفل. ولا يزال النظام السوري يراوغ وينكر انتهاكاته، ويلاحق الإعلاميين والناشطين في حقل التوثيق والإغاثة، ويمنع دخول اللجان الدولية لتقصي الحقيقة وتحديد هوية الجناة.

ما ورد في تقارير الشبكة  السورية لحقوق الإنسان والهيئات الحقوقية الدولية، يثبت تورط النظام السوري بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، كفيلة بعزله عن السلطة، وتقديمه إلى المحاكمة من وجهة نظر القانون الدولي، لا التفاوض على بقائه، ومع ذلك فقد رفعت روسيا الفيتو أكثر من مرة، في مجلس الأمن لحمايته من المساءلة القانونية في ذاك العام المشؤوم، وشاركت قواتها العسكرية في حرب الإبادة ضد الشعب السوري، وقامت بارتكاب 83 مجزرة، قتلت 1436 مدنيًا، وتستمر طائرتها حتى اليوم بقصف المدنيين، مع أنها أعلنت انتصارها على الإرهاب، وسحب مقاتليها من سورية.

دفاع روسيا المستميت عن نظام الأسد، ليس حبًا به، ومؤتمر “الحوار الوطني” الذي انفردت بترتيب أوراقه واختيار المشاركين به، ليس من أجل الوفاق والاتفاق على تلبية تطلعات الشعب السوري، نظام الأسد ومؤتمر الحوار هما الغطاء المحلي للاحتلال الروسي لسورية، وهو ما عبر عنه بوضوح بيان (لا لسوتشي): “روسيا ليست وسيطًا نزيهًا ومحايدًا يمكن الوثوق به، إنها طرف في الصراع، يسعى إلى تقويض مفاوضات جنيف، والعودة بسورية إلى وضع أسوأ من كل ما عرفته في تاريخها السابق، يجمع بين الاحتلال والاستبداد الغاشمين معًا”.


تهامة الجندي


المصدر
جيرون