اقتصاد القلة.. الشقوق المظلمة في سورية



الفوضى الاقتصادية العارمة، التي عمّت سورية مع بداية عام 2005 (سنة التحول بالصدمة من الاقتصاد المنضبط إلى اقتصاد السوق)، ازدادت اليوم مع تحول الاقتصاد إلى اقتصاد حرب، سيطرت عليه شبكة نخبوية حديثة، وجدت في تحالفها مع السلطة، معبرًا لاحتكار مدخلات السوق، دون منازع.

في العاصمة دمشق، يجري الحديث علنًا، عن تضخم الملاءة المالية، لجيل جديد من أبناء النظام داخل المؤسستين: المدنية (البعث) والعسكرية (الجيش وأجهزة المخابرات)، اقتحم بيئة الأعمال، وأسس شراكات حيوية لاستثمار غنائمه من الحرب، يسيطر بشكل متزايد على مناحي الحياة الاقتصادية، بالطريقة التي شهدتها البلاد مطلع الثمانينيات من القرن الماضي.

داخل غرفة تجارة دمشق، في ساحة “الحريقة” -بين سوق مدحت باشا شمالًا وسوق الحميدية جنوبًا- ما تزال صورتا الأسد الأب وابنه الوريث تتوسطان معًا، منذ عام 2000، واجهات مكاتب استقبال الضيوف وقاعة الاجتماعات العامة، وكأن شيئًا لم يتغير، لا على مستوى الوجوه، ولا على مستوى النهج والسياسات المتبعة.

في إشارة ذات دلالة، يختزل اقتران الصورتين تواصل الظل مع الأصل، كتعبير عن سياسة ربما تعني الأثرياء الجدد أكثر من غيرهم. فهم يمثلون حاليًا الحصة الأكبر من الدخل، بخلاف غيرهم، وينظرون إلى عالم التجارة والاقتصاد كجزء من حيازة عائلية، على الجميع أن يقرّ بها من دون منافسة.

يعترف غسان القلاع، رئيس الغرفة (أكثر الأعضاء قدمًا ورئيس مجلس إدارتها منذ عام 2009) في سياق تصريحات أدلى بها لصحيفة حكومية، في وقت سابق، بأن التجار الحقيقيين خرجوا من السوق، وحل محلهم تجار لا علاقة لهم بالمهنة، جنوا أموالهم من رحم الحرب. ومع أن الأثرياء الجدد انتسبوا -كما يقول- إلى الغرفة، كون الانتساب إليها ليس معقدًا، وهي تسمح لكل من يملك عنوانًا ثابتًا وعقد إيجار وسند ملكية وسجلًا تجاريًا، بأن يصبح عضوًا؛ فإنه ربطَ انتهاء دورهم بانتهاء الحرب، وهو الأمر الذي قد يكشفه الزمن لاحقًا.

تتوافق الآراء على أن المسار الذي يسلكه الاقتصاد، في ظل تداعيات الحرب التي يؤججها الأسد، هو مسار تعويضي. فالخسائر التي منيت بها قطاعات النفط والغاز، والتجارة الخارجية، والسياحة، والصناعة، أثّرت في المردود الذي كان يجنيه النظام، ويصرفه لتقوية حكم ديكتاتوري مستبد. وقد استطاع -بمشاركة الجيل الثاني من أثرياء السلطة- أن يهيمن على الأذرع المالية للاقتصاد، والاقتصاد الخدمي، كبديل، ويمارس أنشطة غير مشروعة، خارج حدود النزاهة. حولت سورية إلى واحدة من أكثر الدول فسادًا على مستوى العالم. فعلاوة على شبكات الهاتف المحمول، والمناطق الحرة، وشركات الطيران، والمؤسسات الاقتصادية والتجارية، يهيمن الأثرياء الجدد على سوق العملات الأجنبية، وأنظمة غير رسمية لتحويل الأموال. كما استفادوا إلى جانب ذلك من الضرائب التي فرضوها على التجارة، وطرقها من وإلى المناطق الخاضعة لقوانين الحرب، أو التي تشهد مواجهات دائمة.

يقر أغلب التجار بهذا الواقع، مع أن قيمة الضرائب التي تدفع عند الحواجز ونقاط التفتيش، تزيد من تكلفة السلعة بمقدار 15 بالمئة؛ ما يرفع سعرها في حال عرضها للمستهلك. ويربط بعضهم هذا الإقرار، بسد حاجة السوق من المواد. يقول أحد التجار: “نحن نستطيع في الواقع الحصول على أي سلعة، حتى من خارج البلاد، لكن.. لكل قافلة شحن ضريبتها. ونادرًا ما تدقق العناصر المدنية أو العسكرية الموجودة في نقاط التفتيش، على الحمولات الواردة، لأنها تخضع لاتفاق مسبق، يتم فيه تحديد المبلغ أيضًا. غير أن العملية لا تخلو من منغصات في بعض الأحيان، كأن تدفع ضريبة مماثلة لجهة تسيطر هي الأخرى على جانب من الطريق، ومع ذلك، تظل قيمة السلع المهربة أقل بكثير من مثيلتها المستوردة بشكل نظامي”.

توفر المنافسة غير العادلة، واحتكار القلة للنفوذ، بيئةً خصبة لازدهار أعمال غير مشروعة، كالتهريب. وتذكر وزارة الاقتصاد في حكومة الأسد أنها منحت 14711 إجازة استيراد للقطاع الخاص، حتى أيلول/ سبتمبر 2017. لكن مصادر تجارية تشكك بشفافية الطريقة التي تتبعها الوزارة أثناء منحها هذه الإجازات. يؤكد أحمد عداس (عضو غرفة تجارة دمشق) أن في الأمر مراوغة، فوزارة الاقتصاد “تراوغ في منحها، تحت حجج وأعذار مختلفة. على سبيل المثال، تقتصر الأسواق على نوعين من مادة الزيت فقط، هذا الأمر يؤدي إلى غياب المنافسة وخلق احتكار في السوق”. وهناك سلع كثيرة أخرى، تخضع للاحتكار، لا يحق لأحد في البلاد أن يستوردها، باستثناء شخص أو اثنين.

بحسب اعتقاد سائد، استفادت بيئة الأعمال الداعمة لنظام الأسد، في ظل فوضى الاقتصاد مرتين: مرة من إجازات الاستيراد النظامية التي احتكرت بموجبها سلع رئيسية في السوق. ومرة من إجازات استيراد خاصة منحتها الوزارة لها، عَبَرت بضائعها منافذ الجمارك ببياناتٍ وهمية تغيب قيمتها الفعلية. يعلق أحد التجار قائلًا: “لهذا السبب وغيره؛ نشطت ظاهرة التهريب، فالمواد والسلع التي يتم تهريبها تحقق وفرًا أكبر، أما إذا تم استيرادها بشكل نظامي، فستؤدي إلى خسارة، ومعظم التجار يفضلون السلع المهربة، لمرابحها الكبيرة”. ومن الواضح في هذا السياق أن الشبكات الحليفة للأسد، توافقهم الرأي تمامًا.


علاء كيلاني


المصدر
جيرون