سينما/ تلفزيون



لو أردنا الحديث عن الفروق الجوهرية بين فن السينما والتلفزيون؛ لطال الحديث، لكننا سنختصر ذلك كله في عبارة صُورية واحدة: السينما نذهب إليها إن شئنا، أما التلفزيون فيأتي إلينا رغمًا عنا! فهل أصبح هذا الفهم عتيقًا وساذجًا، في حضرة الفيديو والثورة التقنية ووسائل الاتصال الحديثة؟ ربما! لكن لو دققنا فيها؛ لوجدنا أنها أعمق وأشمل مما نظن.

كانت السينما أهم وسيلة اتصال في القرن العشرين، وجاء التلفزيون لينافسها ثم يحتل الصدارة في نهاية ذلك القرن، ثم جاء الفيديو والصور الرقمية “ديجتال” لتجتاح الاثنين معًا، وتصبح أهم وسيلة معاصرة للتواصل بين الناس.

ما يهمّنا هنا ليس الفروق التقنية والفنية والحضارية، على أهميتها الكبيرة، بل أمرٌ آخر، يتعلق بوظيفة وفلسفة الفن، باعتباره الحاضنة والأساس، وربما المغزى، لأي تواصل بين البشر. فأنت عندما تقرر رؤية فيلم سينمائي، تحجز تذكرتك وتلغي مواعيدك وترتدي ثيابك وتخرج من بيتك، لتصل في الوقت المحدد إلى دار السينما، تطفئ هاتفك وتجلس في مقعدك برفقة العشرات، وربما المئات من الناس الذين يخضعون لتقاليد غير معلنة، وطقس صارم يسمح للجميع بالتركيز على شيء واحد، هو متابعة الفيلم والتفاعل الجمعي معه. وهذا ينطبق –أيضًا- على المسرح والمكتبة والمعرض الفني والأمسية الشعرية. أما التلفزيون، فأنت تشاهده -مع عائلتك أو بمفردك- دون إرادة منك، أو بحكم العادة، حيث تكون مشغولًا عنه بكثير من الأعمال الحياتية الأخرى، التي تفقدك التركيز على ما تراه.

إن شروط التلقي هنا ثقافية ومعرفية بامتياز، تعتمد على الاختيار الحر للمنتج الفني والاهتمام الكامل به، والذهاب إليه والحوار معه. هذا التفاعل -الإصغاء هنا- أساس الحوار، والانتباه نباهة العقل والإرادة والمشاعر. فهل نجد مثل هذه الأجواء في التلقي التلفزيوني؟ ربما، لكن البرامج والمسلسلات وحتى الأفلام التلفزيونية، تكتب لجمهور آخر، أقل اهتمامًا وانتباهًا. وهي أقرب إلى تزجية الوقت والاستهلاك السريع، منها إلى الثقافة وهمومها. فالثقافة لا تأتي إليك، بل تذهب أنت إليها، وتبذل جهدًا معرفيًا، قد يكون كبيرًا، لفهمها والاستمتاع بها، فنحن عندما نقرأ وننقب في الكتب، ونذهب إلى المتاحف والمعارض والمسارح ودور السينما والمهرجانات والمحاضرات والأمسيات… إنما نبحث عن المعرفة، عن شيء ما، جوهري في حياتنا، نفكر فيه ونتعلم منه ونعارضه، عن حقيقة ما مختلفة نريد أن نؤكدها أو نتأكد منها، نثبتها أو ندحضها، وكنا نستطيع –لو شئنا- أن نتسكع في الحدائق أو نجلس في المقاهي والبارات، نشرب القهوة والشاي، وندخن النرجيلة، ونلعب “الورق أو البدريس”، بعيدًا عن المعرفة وشجونها!

لا يخلو التلفزيون من برامج ثقافية ومعرفية، لكننا لا نستطيع الاعتماد عليها، أو الاعتداد بها، ولا يمكن أن تشكل مرجعًا علميًا يمكننا تبنيه والركون إليه، حتى لو كانت دروسًا تعليمية! وليس هذا بسبب عجز التلفزيون؛ بل بسبب وظيفته الأساس التي أنشئ من أجلها، وهي (الدعاية والإعلام والاستهلاك)، الموجهة إلى (كل الناس) دون استثناء، وفي ظروف وأمكنة تلقٍ هي (البيت، الأسرة، المقهى، الشارع)، التي تجعل الانتباه والتركيز مستحيلًا. كما أن الفرق كبير بين أن تحصل أنت على المعلومة بجهدك، وأن تقدم إليك مجانًا! أما إذا ما كانت الشاشة عملاقة، تشبه الشاشة السينمائية في حجمها، لكنها لا يمكن أن تجاريها في الوظيفة والمضمون، لأنها تُنصَب ليس لعرض أعمال ثقافية أو فكرية، بل إعلامية دعوية لمناسبات ومهرجانات وطنية أو حزبية، ومشاهدة عروض رياضية أو إعلانات ترويجية لمنتج أو زعيم سياسي أو نجم معروف، تختلط فيها الأكاذيب بالحقائق، لدرجة يصعب تصديقها! وجمهورها –في جميع الحالات- مجموعات من المتسكعين أو العابرين.

والسؤال: هل يمكن أن يلغي التلفزيون السينما، ويحلّ محلها، كما فعل بالإذاعة؟ والجواب -حتمًا- لا، فمهما تطور التلفزيون تقنيًا واتسعت شاشته، وحتى لو تغيرت وظيفته ليصبح أداة ثقافية؛ فستبقى هذه الثقافة ناقصة، لأن الثقافة تحصيل واكتساب، لا تلقين واستكتاب.


غسان الجباعي


المصدر
جيرون