منير درويش.. أرحلت حقًا؟!



كالصاعقة، جاء خبر رحيل منير درويش -مفاجئًا- خارج التوقعات، مع أن الموت في بلادنا بات كالهواء الفاسد، لكن رحيلًا كهذا، بحادث سيارة، يعطيه طعم المرار، خاصة لمن يعرف الراحل وطبيعته، طيبته، ابتسامته، صدقه، ثقافته، ودوره وموقعه في المعارضة ومقاومة نظام الفئوية والاستبداد.

عروبيًا يساريًا، مثقفًا، وسليل مدرسة ياسين الحافظ وإلياس مرقص، ذلك الرعيل الذي ترك بصمته الخاصة، في الحياة السياسية والفكرية، في نقد الواقع وتجربة الحكم الموصوفة بأنها تحت رايات حزب البعث، البرجوازية الصغيرة وذبذباتها، الشيوعية التقليدية وأخطائها البنيوية والتركيبية، الهزيمة وموقعها فينا.. وهمّ بناء حركة عربية مستقلة الفكر والمصادر، أممية الأفق والانفتاح، إنسانية.. تسعى لتحقيق حرية وسعادة البشر: القيمة العليا.. ومبرر قيام الأحزاب السياسية، الأمة المغلوبة على أمرها، التخلف.. وكثير من أمراض الأمة التي اختنقت في مشانق نظم التبعية والتسول والتوسل، وآفاق الخروج من أسار التخلف.

كثيرة القضايا التي شكّلت وعي وثقافة ذلك الرعيل المتقدّم الذي كان يومًا يُحسب على أنه “يسار البعث”، والذي ترك بصمته الواضحة في ما يعرف بـ “بعض المنطلقات النظرية” التي أقرها المؤتمر القومي السادس 1963، والتي لم تلق قبول المدرسة التقليدية في البعث، التي تحالفت مع العسكر يومذاك لفصل ذلك التيار المثقف.

حكاية طويلة مسيرة “حزب العمال الثوري” ومنعرجاته، ودوره، ومآله وبعض ذكريات.

أواخر عام 1963، زار (سَلمية) وفدٌ من قيادة الاتحاد الوطني لطلبة سورية، وكان ياسر الحمد على رأسه، كنا نتلقف قراءة بعض الكتيبات الماركسية التي تترجمها (دار التقدم) في موسكو، وننقد واقع البعث وثقافته الرائجة، والمفاهيم الاختلاطية لديه حول الأمة والعروبة والوحدة، والممارسة، والبنية الطبقية.. ومسائل كثيرة، كان حماس الشباب يموج بها، فأعجب الوفد كثيرًا بالمستوى والنوعية، وكانت (سلمية) واحدة من أبرز قلاع البعث حيث يشتهر عدد من الأعضاء بالثقافة والالتزام والصدقية، قياسًا إلى السائد. فارتبطنا بعلاقة حميمة مع الحمد، واطلعنا منه على واقع الحزب الفكري والصراعات بين الأجنحة والعسكر ودورهم، وقضايا كثيرة، ربما كانت أكبر من عمرنا نحن الذين كنا نُبالغ بمستوى وعينا، وبعضنا يعدّ نفسه مثقفًا “ختَم العلم”. فتوثقت علاقة خاصة ظلت ظلالها موجودة حتى المراحل اللاحقة التي عرفت تصفية ذلك التيار، وخسارة ما يتفق عليه بأن تلك القيادة الطلابية كانت الأنقى والأوعى من جميع القيادات التي عرفها الاتحاد، حتى العام 1970، تاريخ انقلاب التفحيح، وطي صفحة بقايا مشروع بناء حزب ثوري.

اعتُبر أولئك “يسار طفولي”، ففصلوهم من الحزب، وتعرضوا للاعتقال والملاحقة والتعذيب والتهم المُعلّبة الجاهزة، ومروا بمراحل مختلفة، تحتاج إلى دراسات خاصة من “البعث اليساري” إلى حزب العمال الثوري.

كان المفكر الكبير ياسين الحافظ الأب الروحي لتلك الحركة، ومعه المفكر إلياس مرقص ببصمته الخاصة في أجيال اليسار، والفكر النقدي، والتأسيس لحركة عربية يسارية موجدة، فاشتهر معظم المنتمين إلى ذلك الحزب بثقافتهم المميزة، بخاصة أنهم ركزوا كثيرًا عبر العقود على الثقافة أكثر من الامتداد الأفقي، والحالة الشعبية، فضمر امتدادهم، بما يسمح للبعض، بتوصيفهم كحالة نخبوية، لكنها عُرفت بالصدق والمسلكية المنسجمة مع الفكر الذي تعتنق، وبمعارضة النظام بطريقة واقعية.

أواخر عام 1979، وكنا قوى ثلاث (الاتحاد الاشتراكي العربي – الحزب الشيوعي، المكتب السياسي – البعث الديمقراطي) نتحاور من سنوات حول قيام عمل جبهوي، ونتبادل المشاريع المكتوبة والملاحظات عليها دون الوصول إلى اتفاق محدد، حتى كانت أحداث الثمانينيات، واشتداد الاقتتال بين النظام و”الحركة الدينية”؛ فتمّ التوقيع على إقامة “التجمع الوطني الديمقراطي”، وانضمّ إليه عند التأسيس كل من “حزب العمال الثوري”، والاشتراكيين العرب، وصدور البيان الأول المهم، فحملات الاعتقال الكبيرة التي طالت “المكتب السياسي” وتنظيم البعث “الديمقراطي”، وبعض الأفراد من التنظيمات الأخرى.

زارنا في “الوكر” عددٌ من قيادة حزب العمال الثوري، على رأسهم طارق أبو الحسن (الأمين العام)، وكان حوارًا صريحًا أثمر علاقة قوية مبنية، على الصدقية والتناغم المشترك، في كثير من القضايا المحورية الفكرية والسياسية، ومعارضة النظام.

تعرفت على الراحل منير درويش، ومن اللحظات الأولى، ونظرًا إلى طيبته وصدقه؛ تشعر وكأنك تعرفه من سنوات، فارتبطنا بعلاقة صداقة وطيدة. أثناء انعقاد لقاء “المنبر الديمقراطي” في القاهرة أوائل عام 2012، وكان المحسوبون على التيار القومي اليساري والعروبي كثرًا، فعقدنا جلسات حوارية معمّقة. كان هناك قسم متحمس لإنشاء تيار عروبي ديمقراطي فورًا، كونه الغائب الأكبر، ونتيجة الحاجة الماسة إلى وجوده، وكنت من المعارضين، قبل أن يقوم المنتمون إلى هذا التيار بمراجعات وتصحيحات شاملة لجوهر الفكر والمسار، وبناء البديل وفق نتائج تلك المراجعات، وكان الصديق منير من وجهة النظر هذه، فازدادت علاقتنا قوة، وتفاهمًا، وظلت تلك سمتها في الحوارات الطويلة والكثيرة التي كانت تعقد بشكل يومي أحيانًا، على (سكايب).

على الرغم من خلافنا، في بعض القضايا الخاصة بالعسكرة وموقعها في إنهاء النظام، والحل السياسي وآفاقه، ثم في حضور مؤتمر القاهرة للمعارضة الذي ولّد ما يعرف بـ “منصة القاهرة”، فإن صداقتنا استمرت، وكانت هي الأقوى.

في مؤتمر (الرياض 2) التقينا بشوق كبير، تحدثنا بأمور كثيرة مهمة، كنا متفقين في الجوهر، لا نختلف حتى في التفاصيل والتكتيك، وكان من الموقعين على البيان من دون تحفظ، وسعدت أنه صار عضوًا في وفد التفاوض، واعتبرت وجوده أحد الضمانات المهمة لتماسك الوفد وتوافقه، فأرسل لي كثيرًا من التحيات، والأمنيات أن يراني بينهم في جنيف.

كان الصديق الراحل حميميًا، حضاريًا، ودودًا، عميقًا في التفكير والثقافة، واضحًا، ملتزمًا؛ فكان رحيله خسارةً كبيرة للمعارضة، ولكل من أحبّوه وعرفوه. عزاؤنا في الراحل كبير، وتعازينا لأهله ورفاقه، وللشعب السوري المصمم على انتزاع حقوقه.


عقاب يحيى


المصدر
جيرون