الآخر في الرواية السورية



يُعدُّ شكيب الجابري من أوائل الروائيين السوريين الذين عالجوا قضيَّة العلاقة مع الآخر؛ إذ كتب روايته (نهم) 1937، التي سيطرت فيها شخصيَّة الآخر، واستأثرت بمساحاتٍ واسعة من السرد فيها، وقد قدَّمت الرواية صورةً إيجابيَّةً للغرب، الذي يُمثِّل الحداثة والتطوُّر، وأظهرت الرؤية السرديَّة فيها انبهار الذات بالغرب ومنجزاته التقنيَّة، وتحريره العقل من القيود التي تفرضها العادات والتقاليد في الشرق؛ لذا فإنَّ بطل الرواية يبدو مأخوذًا بالغرب، مُنبهِرًا به. وقد كان جذَّابًا إلى درجةِ أنَّ الفتيات الأوروبيَّات يتسابقنَ إلى كسب ودِّه؛ لذا حضرت الرسائل بوصفها وسيلةً للتعبير عن الرؤية السرديَّة، التي أظهرت المرأة الأوروبيَّة بمظهر الإنسانة المُنحلَّة. شغلها الشاغل إشباع غرائزها، وهمُّها الأكبر الوصول إلى الرجل، وقد ركَّزت الرواية على لهاث المرأة وراء البطل الشرقي، وأهملت جوانب أخرى من شخصيَّتها، مثل إقبالها على العمل، وتحمُّلها للمسؤولية شأنها في ذلك شأن الرجل.. وتطرَّقت روايته (وداعًا أفاميا) 1960 إلى مرحلة الانتداب الفرنسي، لكنَّها سلَّطت الضوء على شخصيَّة الآخر الحضاري، والمتقدِّم، الذي يُبهِر الشخصيات الممثِّلة للذات. وناقش حنا مينة، في روايته (الثلج يأتي من النافذة) 1969 الصراعَ مع المُستعمِر الغربي (العدو القومي)، والقوى الرجعية (العدو الطبقي)، الذي يمثِّل نوعًا من أنواع الهيمنة غير المباشرة للقوى الاستعماريَّة حتى بعد خروجها من البلاد العربيَّة، ويصف في روايته (الشمس في يومٍ غائمٍ) البرجوازيَّة العربيَّة، التي تشبَّعت بأفكارها من الغرب؛ لذا عكس موقف انبهار الذات بالغرب ومنجزاته الحضاريَّة. أمَّا روايته (الربيع والخريف) 1984، فتتناول الغرب الاشتراكي، وأوضاعه الاجتماعيَّة والسياسيَّة، وتقارنها بما هو عليه الواقع العربي.

وتقدِّم رواية هاني الراهب (شرخ في تأريخ طويل) صورةً لتصدُّع الذات العربية وتشرذمها، وعبَّرت عن لهاث الذات وراء الغرب، وسعيها نحو النموذج الغربي في التطوُّر والنهوض، على المستويات الفكرية والاقتصادية والسياسية، فقد بدت الذات في هذه الرواية في موقف انبهارٍ بالآخر الغربي.

وإذا كانت الروايات السورية السابقة قد تناولت العلاقة مع الآخر، من زاوية الصراع الحضاري المحكوم بالغلبة للآخر القوي، والذي يفضي إلى انبهار الذات به وبمنجزاته، فإنَّ حميدة نعنع تقدِّم في روايتها (الوطن في العنين) 1986 مقاربةً مختلفةً عن سابقاتها؛ إذ إنَّ الصراع في هذه الرواية يفضي إلى تقديم بدائل عن عجز الذات، وتتمثَّل تلك البدائل في المقاومة لتحقيق الانتصار، والالتفاف حول الثوَّار، ويرجع اختلاف تعاطيها مع موضوع الآخر عن التجارب الروائية التي سبقتها إلى تغيُّر اللحظة التاريخيَّة التي تقف عليها؛ إذ أثَّرت هزيمة 1967، ومجازر الصهاينة المتتالية بحقِّ الشعب الفلسطيني، في أبطالها، وجعلتهم يعيشون أزمةً عميقةً، لكنَّ “نادية” بطلة الرواية ترى في الثورة وسيلةً من أهمِّ وسائل استرداد الحقوق المُغتَصبة، تقول: (فنحن مقتنعون بأنَّ البندقيَّة هي البديل الوحيد لكلِّ هذه الخيبات)؛ لذا انتسبت إلى الفدائيين، وقامت بثلاث عمليَّات اختطاف لطائرات في أوروبا؛ لتلفت أنظار العالم إلى قضيَّة الشعب الفلسطيني، ولكنَّها ترى أنَّ الحلَّ الوحيد يكمن في الثورة على الآخر الصهيوني؛ لذا اختارت العودة إلى الوطن للمشاركة في القتال؛ لتكون العودة دليلًا على أنَّ مقاومة الاستعمار من صنع ثقافة الشعوب المُستعمَرة المُضطهَدة أولًا.

وتصوِّر روايتها الثانية (من يجرؤ على الشوق) 1989 سلبيَّة غير قليلٍ من المثقفين، وقطَّاعاتٍ عريضةٍ من الجماهير العربيَّة، إزاء قضايا مصيريَّة تُهدِّد الذات العربيَّة، وفي مقدِّمتها قضيَّة الشعب الفلسطيني، وتُحلِّل الرواية بعضًا من أسباب تلك السلبيَّة، ومنها نكبة عام 1948، التي أحدثت صدعًا في وجدان العربي، وجعلته يبدو ضعيفًا أمام الآخر الصهيوني، يقول “عبد الرحمن” أحد شخصيَّات الرواية: (كان عام 1948 يلاحقني في صوفيا، حتى إنَّني كلَّما التقيت يهوديًّا في المقاهي التي تعوَّدت ارتيادها؛ أخفض رأسي)، ومن دواعي سلبيَّة الجماهير العربيَّة هزيمة عام 1967، التي تركت أثرًا عميقًا في وعي المواطن العربي، بل إنَّ الحزن والانكسار تسرَّب إلى نفوس السجناء من المناضلين، بعد أن سمعوا بالهزيمة، فقد تحوَّل السجن إلى جحيم. فمساء الخامس من حزيران أبكى الحرَّاس جميعًا، وأبكى المساجين، وتصوِّر الرواية تصدُّع العرب أمام تحالف القوى الغربيَّة ضدَّ المصالح العربيَّة؛ إذ يدين “فرانك” عمليَّة اختطاف المُنظَّمات الفلسطينيَّة للطائرات في أوروبا، ولكنَّه لا يحرِّك ساكنًا إزاء المجازر الوحشيَّة التي ارتكبها الصهاينة بحقِّ الشعب الفلسطيني؛ ليظهر بوصفه مُمثِّلًا للغرب الذي لا يرى الأمور إلا من زاوية مصالحه.

وتعاين رواية غادة السمان (ليلة المليار) 1986، الواقع العربي المؤلم؛ لتُقدِّم صورًا مأسويةً عن تبذير أثرياء العرب أموالهم على النوادي الليليَّة في سويسرا، في مشهد يعرِّي خيبتهم، ويفضح نزوعهم نحو اللذَّة دونما إحساسٍ بالمسؤوليَّة إزاء وطنهم الجريح؛ ليجتاحوا خدور النساء الغربيَّات ليلًا، في اللحظة التي يحدث فيها الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. وتظهر معاناة المرأة العربيَّة في الغرب عبر شخصيَّة “ليلى السباك”، التي تزوَّجت من فرنسيٍّ، ولكنَّها لم تتأقلم مع تقاليد المجتمع الفرنسي؛ لذا تركته كما تركت ماضيها الثوري. وتأتي الرواية بوصفها تأنيبًا لضمير غير قليلٍ من المثقَّفين والأغنياء العرب، الذين يشترون ملذَّاتهم في الغرب بأموال الفقراء العرب، يقول بطل الرواية “خليل الدرع”، واصفًا الزيف الذي يعيشه أثرياء العرب في الغرب: (هذه جنَّةٌ مستعارةٌ لا نستحقُّها لمجرَّد أنَّنا ندفع ثمنها من نقود بقيَّة فقراء الشعب العربي)؛ لذا تشي أفعال “خليل الدرع” و”الزهران” و”ليلى السباك” بالأزمة التي يعيشها العربي، سواء في موطنه أم في فضاء سويسرا، التي جعلتهم يلهثون وراء المال والمرأة دون أن يحسُّوا بأدنى مسؤوليَّةٍ أمام بلادهم الضعيفة، وشعوبهم الفقيرة.

ويحضر الآخر في رواية التسعينيات من القرن المنصرم؛ إذ يقدِّم خيري الذهبي، في روايته (فياض) 1990، صورةً نمطيةً حول الآخر الغربي، بل هي صورةٌ غير دقيقةٍ، ترتكز على العداء التاريخي، والاختلاف الحضاري، وسوء التفاهم الذي يُقولِب الآخر، ويحرمه من أبعاده الإنسانيَّة؛ إذ يظهر فضاء الغرب بوصفه مُخترَقًا بالماديَّات وغياب القيم؛ لذا تبدو المرأة من منظور البطل مكانًا لإشباع حاجاته ورغباته، فهي تبحث عن المتعة أينما كانت، وبذا تتشابه هذه الرواية مع ما قدَّمته رواية (نهم) للجابري، فكلتا الروايتين ترسم صورةً تنال من الآخر، وتلصق به صفات الخواء الروحي، والبحث عن المتعة بأيِّ ثمنٍ، والنظر إلى المرأة بوصفها سلعةً ومجالًا للتسلية والمتعة.

وترسم رواية (أعاصير في بلاد الشام) 1998 لـ ناديا خوست صورة للآخر الفارسي، والسوفييتي، والإسرائيلي، ولكنَّها تركِّز على الإسرائيلي، الذي تشكلَّت صورته بوساطة الأخبار المتتالية التي تدينه، مثل قيام المنظمة الصهيونيَّة بتدمير بيوت “صفورية” بيتًا بيتًا، لمحوها عن الأرض وطمس معالمها وتغيير هويَّتها، فضلًا عن إشارة الرواية إلى تحالف الغرب مع الصهاينة، لتهريب السلاح إلى (إسرائيل) من أجل إتمام مخطَّطهم في إقامة وطنٍ يجمع أشتاتهم على الأراضي العربيَّة، وتعبِّر الرؤية المُقدَّمة في هذه الرواية عن دور الإعلام في إظهار الصهاينة بوصفهم مضطهدين في أرجاء العالم. كما وقفت الرواية على أسلوبهم في الخداع والتضليل؛ إذ قال رئيس بلديَّة روشبينا، لمن بقي في الصفصاف حيًّا بعد المجزرة: (ربَّما وصلت قوَّاتنا في هذه البرهة إلى الشام، ولم يبقَ إلاَّ أن نعيش معًا! توسَّطَ لهم ليخرجوا أحياءً! وخرجوا إلى بنت جبيل! سيبحث كلٌّ منهم عن ولده! تسلَّلوا مرَّاتٍ من بنت جبيل إلى بيوتهم، ورآهم اليهود يأخذون بعض أغراضهم من الصفصاف ويرحلون، فلينزحوا! لتكن الأرض دون سكَّان) وتصوِّر الرواية كذلك الإنكليز، الذين ظهروا في صورة المساندين للصهاينة والداعمين لتحقيق مخطَّطاتهم؛ إذ قدموا السلاح، وساندوهم في المحافل الدوليَّة.


إبراهيم الشبلي


المصدر
جيرون