بعض المعارضة السورية وتقزيم الآخر



ليس دفاعًا عن منير درويش، الذي توفي بظروف غامضة في دمشق، اليومين الماضيين، فأنا -شخصيًا- لم أعرف عن الرجل منذ التسعينيات شيئًا، وربما ينصفه أصدقاؤه ورفاقه بموضوعية، إيجابًا أو سلبًا، وهذا متاح في مجال النقد، لكن هناك من يكتب بسوء نية، أو بما يأتي بمرارةٍ تُخرج القارئ عن طوره، وربما عن صمته، وتضعه في مفترق طرق: الصمت، أو الدخول في مهاترة، وبخاصة أن الوعي العام اليوم مزاجي بطبعه، ينزاح عاطفيًا مع معارفه ومحيطه دون أن يُشكّل جملة واضحة ومحددة، من مرتكزات القول والفكر والسياسة، تحدد معالم طريق واضحة لسورية التي نرغب.

يكفي حزب العمال الثوري، بتاريخه السياسي والفكري، أن يُدافع عن نفسه، بنصوصه وكتبه ومواقفه السياسية والفكرية والعقلانية أيضًا، بدءًا من المرحومَين: إلياس مرقص وياسين الحافظ، فالمرحوم جورج طرابيشي، إلى الحاضر الدائم جاد الكريم الجباعي، إلى منير الخطيب، وحازم نهار، ونضال درويش، وسلسلة طويلة من كوادر معرفية وسياسية، تنتشر في كل مفصل من مفاصل المعارضة السورية وثورتها اليوم، ولو كلّف أي سوري نفسه البحث عن مواقع هؤلاء الفكرية والسياسية؛ لوجد نقاط ارتكازهم وأفكارهم ومواقعهم في الثورة اليوم، وفي تاريخ المعارضة السياسية السورية وآليات تشكلها وتحالفاتها.

ربما ما يجعل المرارة أقوى هو أننا، نحن، القابعون في معادلة القهر اليومي، ممن رفضنا، أو لم نستطع، أو بقينا طوعًا أو كرهًا، ولك أن تضع السبب الذي تريد، صديقي “معارض الخارج”، أو من تُسمّي نفسك كذلك، أننا في الداخل السوري نقتات آلامنا ونصبر على جراحنا ونتعالى عن الصغائر، وربما نعمل بصمت ما لا يفعله الآلاف بالخارج، وليس هذا فقط، بل كل من نطق بالخارج يستند بمرجعتيه الكبرى إلى وجود الداخل أصلًا.

المعضلة الكبرى حتى اليوم هي هذا التصنيف الخطير، التقييم الذاتي المنتفخ صوريًا، و”المحدّب” إلى درجة التضخيم المفرط برؤية الذات كهالة كبرى، عبر تقزيم الآخر، فالآخر هو الحد الموضوعي المُعرِّف للـ “أنا”، هو حدها الطبيعي وشكل تشذيبها وتحديدها، هو هوية الوجود الأولى التي تتعرف الأنا به، وتضع المجتمع البشري في مقولة التعدد والاختلاف والإثراء من بعض، لا هدم بعض أو تصيّد بعض، كما في معادلة الغابة. فقد درج خطاب التخوين والتقزيم هذا على لسان طيفٍ من “بزاري” السياسية ومنتفعيها، في سياق ثورةٍ لا تشبه حزبًا لليوم في تنوعها ومساراتها وتعرجاتها، وللأسف في شكل امتطائها واستثمارها، لدرجة باتت تهمة أنك “معارض خارجي” تعني الارتزاق مثلًا أو التبعية لدولة ما أو فئة ما! وأن “معارضة الداخل” هي مجرد لعبة بأيدي المخابرات، إن لم تكن عميلة له! مجرد تصنيف قزم لا يرتقي -بأي صورة من صوره- إلى مستوى النقد أو حتى أدنى درجات التعرف والتعريف. والأدهى من هذا تقع هذه الصور جميعًا في مغبّات التعميم والتعمية والنفخ بالذات وتقزيم الآخرين، في خطاب شعبوي عاطفي أشبه بهرج المضافات، عندما يتناول قضيةً ما، من قبيل الخرافات الشعبية، كطائر العنقاء أو الجن و”الرسدة” وممارسة السحر والشعوذة.

المعارضة معارضات، وهذا قول يبدو من حيث المبدأ سليمًا، كونه يبني شروط الاختلاف والتنوع والتعدد، وهذا هو شرط الخروج في ثورة عارمة على سياسة الحزب الواحد واللون الواحد والفكر الواحد، ولا يعني هذا أبدًا اتفاقي الشخصي مع هيئة التنسيق أو مدعي الماركسية سياسيًا أو غيرهما. المعارضة أيديولوجيات، وهذا محط نقد فكري أولًا وسياسي ثانيًا، وموقف يرتقي بالتدقيق العلمي والمنهجي والمبين بالحقيقة الواقعية لا بالفرضية والوهم، ولا يعني هذا أبدًا اتفاقي الشخصي مع “رندة قسيس” مثلًا، وما تمثله سياسيًا. المعارضة فُرضت عليها أقسى أنواع الخيارات وأصعبها، وتدرجت حولها وعليها آلاف أشكال الممارسات القمعية والتنكيلية؛ ما اضطر الكثيرين منها إلى الهرب خارج سورية، وفي المقابل، لا يعني بقاء رياض الترك وسليمان الشمر وغسان الجباعي وسين وعين، وغيره الآلاف في الداخل، أنهم لم يُعانوا كغيرهم ممن اضطروا إلى الخروج! هذه الجزافية والاستسهال الذي يقوم به طيف عريض من متبجّحي اللغة دون تدقيق في التفاصيل، وليس فقط بل مفهوم وأدوار المعارضة الممكنة والفعلية في العمل، فاعتبار وجود فريق عملٍ يعمل في الخارج، كان بالنسبة إلينا دورًا مهمًا في إدارة الملف السوري دوليًا، لا استثماره في انتهاك حرية وسمعة الآخرين. وبقاءُ فريق عمل في الداخل لا يعني أنه قابل للمساومة أو العمالة الأمنية أبدًا، بل هو شرط وأساس شرعية وجود المعارضة في الخارج، هذا إذا افترضنا في المبدأ أن مصطلح معارضة مُدقق سياسيًا، في معادلة السلطة والمعارضة التي تفترض أولى وأبسط شروطها وهو دستورية العمل وقانونه، وهذا ما هو غير موجود أصلًا، وهو بذاته أصل المسألة السورية وثورتها ببعدها السياسي الممكن، لا الافتراضي عن الذات.

لست بوارد الخوض في مهاترة كلامية مع أي شخص، معارضًا كان أم مواليًا، ليس ترفعًا وحسب، بل لأن حجم الكارثة السورية فوق مجموعنا كأفراد ومجموعات، وبضع “شلل” مما أطلقوا على أنفسهم “أحزابًا” و”معارضة” أيضًا! لكن ينبغي حدُّ القول بالقول، وتفنيد الادعاء بالحقيقة التي نترقب حضورها في هذا العالم المزيف الذي يبيح قتلنا بكل الطرق والأدوات، فإن كان لـ “معارض الخارج” -كما أراد هو أن يسمي نفسه، لا نحن- حين وصف البقية منا في الداخل بعكسه، غرضٌ شخصي أو اعتلال ما على المرحوم منير درويش، فله الحق بإبرازه علنًا ومقاضاته حقوقيًا وسياسيًا، لكن أن يأتي بهذه التعمية والجزافية على أصحاب خط العقلانية العربية، وكل “معارضة الداخل”، بشكل لا يشبه سوى خطاب السلطة، حين يصف معارضيه بـ “الجراثيم”؛ فهذا لا يمكن أن يُمثّل خطًا سويًا في وجود الحالة السورية وسياستها الممكنة، وعليه مراجعة ذاته والاعتذار للشعب السوري، أولًا وآخرًا.

يبقى القول: إن كان لحزب العمال الثوري من فضل ذي قيمة كبرى؛ فهو رفضُه الانجرار في مهاترات سياسية، وليس هذا فقط، بل توقفه عن العمل السياسي كحزب، مما يزيد عن عشرة أعوام، واكتفاؤه بالعمل بإمكانات أفراده دون أن يسندوا إلى نفسهم مرجعية كبرى أو صغرى، موهومة أو حقيقية، سوى قدرتهم على الفعل وإثبات حضورهم في معادلة سورية، اليوم وغدًا، وهذا محط جدال واسع وعريض.


جمال الشوفي


المصدر
جيرون