ربيع الخبز العربي



ليس في مقدور السياسة أن تتخلى عن لغة الأرقام، فالسياسة التي جرى تعريفها مدرسياً على أنها «فن الممكن» تحتاج إلى فن الحساب كي تقيم بناءها. والحساب يقضي، ونحن نراقب الانفجارات التي تندلع من جديد في أقطار عربية، أن نجري معادلات بعضها منطقي والآخر رياضيّ، حتى ننبّه من خراب قد يودي بما تبقى من عمران في العالم العربي المصاب بالانفصام والمُبتلى بعطب الذاكرة.
حملت انتفاضات «الربيع العربي»، التي اندلعت أواخر 2010 مطالب بالحرية والعدالة والكرامة، بعد أن كانت الدراسات واستطلاعات الرأي والبحوث الاجتماعية قد نبهت من تفشي الفساد وازدياد عدد العاطلين من العمل، وانسداد الآفاق السياسية، وغلبة الحكم الفردي المطلق الذي أنتج منظومة الاستبداد والطغيان وحيونة الإنسان.
بدأت الانتفاضات ربيعاً وانتهت خريفاً، بعد أن انحرفت الثورات عن مساراتها، واعتلى صهوتها الانتهازيون وصيادو الفرص القميئة من أفراد ومؤسسات ودول، فصار لسان حال غالبية البشر المترامين من الماء إلى الصحراء، أنّ الاستبداد مع الأمن والأمان، خيرٌ من الحرية مع الخراب وموت الإنسان، وهي معادلة لا تعبّر عن الحكمة بقدر ما تُفصح عن اليأس الشديد، وانحطاط الأمل.
بالأرقـــام والإحــصاءات نلوذ، حتى لا نغرق في التعميم، فقد أصدر «المنتدى الإستراتيجي العربي»، أواسط العام الماضي، تقريراً لتقدير تكلفة «الربيع العربي» خلال الســـنوات الخـــمس الماضية، كشف أنّ الدمار أصاب كامل البنية التحتية لأربع دول عربية هي ليبيا واليمن والعراق وسورية، وهو ما تصل تكلفته إلى 900 بليون دولار، فضلاً عن 640 بليون دولار الخسائر السنوية في الناتج المحلي العربي . أضف إلى ذلك 300 بليون دولار أنفقت على ما سمّاها التقرير «إجهاض الثورات».
وفي موازاة ذلك، أثمر «الربيع» عن 14 مليون لاجئ (تبلغ تكلفتهم 50 بليون دولار تكلفة اللاجئين سنوياً) و8 ملايين نازح، و4 مليون قتيل وجريح.
الخسائر في حسبتها النهائية مذهلة، وقد تتعدى أرقامها الإجمالية 2 تريليون دولار، وهو رقم فلكي كان بمقدوره أن يجعل أقطار العالم العربي، وفي طليعتها الدول المنكوبة، من أكثر الأقطار رخاءً ورفاهاً في العالم. ولكنّ إرادة الشرّ والظلم وغطرسة القوة، وعنف الاستبداد، هزمت إرادة الخير والعدل والنور.
لم تنته الحرب بعد، فالتصدّعات التي عصفت بالعالم العربي قبل ثماني سنوات، تستعاد الآن على شكل زلازل خفيفة ومتفرقة. لكنّ إغماض العين والقلب وإقفال الآذان، هو السلوك التقليدي للسلطات العربية، كأنها تعتقد أن تلك الزلازل ليست سوى تثاؤب عابر لأرض ضجرة. بيد أن ما نراه من انتفاضات الخبز العربي التي تندلع مرة في تونس وأخرى في السودان، وثالثة ورابعة في مصر، وربما نراها في فلسطين والأردن والجزائر، يؤكد أنّ عنوان المواجهات المقبلة، إن تواصل التعامي والإنكار، سيكون لقمة العيش.
الإصلاح ممكن من دون إسالة دماء إذا أراد الساسة وحكام النظام العربي أن يتقدموا خطوة، فيجسّروا الهوة مع شعوبهم، لاسيما في ظل تآكل قدرة تلك الشعوب على تسديد فاتورة الفساد في العالم العربي البالغة تريليون و200 بليون دولار، حيث إنّ خمس دول عربية في قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم، وهو ما منع العام الماضي 14.5 مليون طفل من الالتحاق بالمدرسة، ما يجعل السبعة والخمسين مليون عربي، ممن لا يجيدون القراءة والكتابة، في تزايد هستيريّ.
الأرقام المرعبة تظل تطل برأسها لتبلغنا بأنّ زهاء 70 مليون عربي يعيشون تحت خط الفقر المدقع، في حين زادت معدلات الفقر في العامين الأخيرين بنسبة 60 في المئة.
في 2010 خرجت الشعوب تطالب بالهواء والكرامة، بعدما اختطف الجنرالات حريتها وكبرياءها، فكظمت آلامها وتحمّلت المهانة. مرّت ثماني سنوات عجاف جاعت فيها الكائنات الآدمية حتى تهرّأت منها الأمعاء، ولم تعد تجد قوت يومها. وإذ تخرج على الناس شاهرة سيوفها، فلعلمها الأكيد أنها لن تخسر شيئاً لأنها، حقاً، لا تملك شيئاً سوى قيودها!

(*) كاتب أردني


الحياة


المصدر
جيرون