“عبد اللِّي” الحاضر في غيابنا عنه



زارني عبد القادر عبد اللِّي في مناماتي، ثلاثَ مرَّات، هذا العام.

ربما.. أنا مَن زرته؛ والصديق الصَدوق.. يُزَار.

في المنام الأول.. التقينا في فضاءٍ أزرق اللون؛ أزرق شامي.. تحديدًا؛ رأيته.. بكلّ أبعادِه الثلاثيَّة، كان يلهث.. كأنما قد أتى من مكانٍ بعيد، كما قد كان يأتي من أضنة إلى إسطنبول.. فنلتقي صباحًا في كلّ مَرَّة على فطورٍ مشترك؛ نأكل في كلّ مرةٍ، فطائرَ تركيّة بالجبن؛ تشبه “مناقيشنا” السورية؛ نشرب معها كأسي شاي “أكرك عَجَم”، يطلبها عبد القادر من النادلِ ثقيلةً؛ بلغته التركية الرشيقة؛ ثمّ يرمقني من طرف عينيه:

أشو.. ما تعلَّمت تركي؟! لديّ زهايمر لغوي.. يا عبّود؛ حتى الإنكليزية قد بدأت أنساها من قِلَّة الاستعمال.

رشف عبّود من كأس شايه:

ثمَّة عبيد الشعر؛ أمّا أنتَ.. فمِن عبيدِ اللغة العربية.

وحين التقينا في المنام الأول.. سألني قبل التحية والسلام:

ليش ما حضرت جنازتي؟! لا أحضر جنازات الأصدقاء.

يبتسم لي: ولِيش.. بقى؟!

أردّ ضاحكًا: لأنهم.. لن يحضروا جنازتي حين أموت.

هزّ عبّود رأسه:

أعرِفك.. لا تؤمِن بالغيبيَّات؛ لكنهم يحضرونها.

ثمّ تابع:

حَضَرت هذا العام.. جنازاتِ شهداءِ إدلب؛ ولولا أنّ قدمي تؤلمني.. لحضرت كلَّ الجنازات.

لأخرِجَه من هذا.. سألته:

أمَا تزال تؤلِمكَ؟! ثمَّةَ أطباءٌ.. هم سماسرة أجسادٍ وأرواحٍ فقط.

غادرني ومضى.. حاولت اللحاقَ به؛ رفع يده اليمنى:

عد إلى غرفةِ تغريبتِك.. لم يَحِن وقتك بعد.

ثمَّ غاب.. فاستيقظت.

في المنام الثاني.. رأيتنا.. هو وأنا؛ على مقعد المدرسة؛ كما كنَّا نجلس صِغارًا؛ ولكن هذه المرَّة.. بوجهينِ على عتبة الستين.

قَرَّب عبد القادر مِمحَاتَه من أنفي؛ وهمس.. حتى لا يسمعنا الأستاذ:

أشو بتذكرك ريحتها؟ بريحة دولاب “بسكليت” أستاذ الموسيقى: قاسم آغا.

ثم قرَّب ورقة سمراء.. كان يشخبط عليها أول رسوماته:

وهالورقة؟! بريحة حَمَّام السوق.. أول ما تفوت عليه.

ثم رأيت نفسي وقد عدت صغيرًا.. اشتري طرحيَّات ورقٍ أسمر من “مكتبة القبّاني”، لأفردها تحت سريري الحديدي، وقد صدأت تيجانه النحاسية؛ ثم أذهب إلى شجرة الياسمين في باحة الدار؛ وكانت بالفعل كذلك.. بجِذعِ عريشة عنبٍ عتيقة؛ فأهزّها.. ثم ألَملِم أزهارها؛ أضعها بين طبقتين من تلك الأوراق السمراء.

ينقطع المنام الثاني فجأةً.. وما زلت أنتظر أن يعَاوِدَنِي، لأذهبَ بتلك الأوراق إلى عبد القادر عبد اللّي؛ يشمّها بعمقٍ؛ ويتنهّد:

هلّأ.. طاب الرسم.

في المنام الثالث.. رأيته -أيضًا- في فضاء شامي أزرق؛ جالسًا إلى طاولة بلون النارنج.. تتناثر عليها كتبه وأوراقه؛ منهمكًا في عمله؛ أجلس إلى جانبه على مهلٍ حتى لا أقطع عليه انهماكه؛ ثمَّ بعد ثانيةٍ، ربما.. بعد شهرٍ أو دهر، يلتفت عبّود نحوي، يبتسم، تلتمع عيناه من وراء نظارته:

معك.. سيكارة.

أعطِيهِ واحدةً؛ أشعِلهَا له؛ يشفطها طويلًا وعميقًا.. مغمَضَة عينَاه؛ ينفث دخانَهَا على مهلٍ؛ وبتلذّذٍ شديد:

منعوني عنها.. لن أكترث بهم بعد اليوم. معك حق.

ألمح على شاشة اللابتوب آخرَ ما كتبه:

ترجمة جديدة يا عبّود.. ولّا مقال؟

يأخذ نفسًا آخر من سيجارته:

ترجمت كثيرًا للأحياء.. أترجم الآن للأموات. للأموات.. يا عبّود! أعرفك لا تؤمن بالغيبيّات.. لكنهم يقرؤون أكثرَ ممّا يقرأ المسجلّون رسميًا على قيد حياتهم. ليسوا إذًا.. مِن أمَّةِ “اقرأ”!

ثمَّ انقطعَ الكلام.. لم يكن منامًا ثالثًا هذه المرّة؛ كان حلمَ يقظةٍ فحسب، ربما.. ليكتملَ الثالوث. ثمّ وجدت نفسي وبيدي السيجارة ذاتهَا؛ أقرأ آخرَ ما تَرجَمَه عبد القادر عبد اللّي من أعمال “أورهان باموق”.

إسطنبول 29 – 12 – 2017


نجم الدين سمان


المصدر
جيرون