أنا بشار… يُعيدون تأهيلي



جَلَسَ أعضاء الوفد الروسي أمامي بوجوهٍ كأنها من شمْعٍ لا يتحرّك فيها عصَبٌ. نشروا الخرائط وبدأ كبيرهم الكلام:
السيّد الرئيس، فعلْنا كل ما نستطيع من أجل إبقائك في السلطة. غَطّيْنا المجازر دولياً، وشاركْنا في القتال محلياً. أَخْرَجْناك من مأزقِ الكيماوي الأول عبر اتفاق بوتين – أوباما، وضَغَطْنا كي تأتي ردة الفعل الدولية الثانية إثر خان شيخون محصورةً ببضعة صواريخ من ترامب لم يعرف أين سقطتْ وقال لاحقاً إنها ذهبتْ إلى العراق. (ابتسم أحد أعضاء الوفد ثم سحب ابتسامته فوراً مع نظرةٍ نافذةٍ من كبيره).
أَرْسَل الحلفاء لك كلّ مرتزقٍ في المنطقة بعدما صار جيشك مجموعات مرتزقة. دخلتْ إيران وميليشياتها على الأرض، وسيطرتْ «السوخوي» على الأجواء، ودرّبنا طيارينا بِلَحْمِ السوريين الذين انتفضوا ضدّك.
غول التطرف أُطلق في اللحظة المناسبة إقليمياً ودولياً. أَخْرَجْنا «البضاعة» من السجون في العراق وعندكم ومن اليمن وحتى الشيشان، وطلبتْ إيران من قيادات عندها تحريك الأمور على الأرض تماماً كما فعلتْ بعد احتلال أميركا للعراق. صار عندنا سلاحان قاما بخدمتك كما لم يفعل لا جيشك ولا أقرب المقرّبين لك… «النصرة» و«داعش».
افْتَتَحْنا قناةً مهمة جداً مع الإسرائيليين لحماية نظامك، نخبرهم بكل طلعاتنا الجوية وتَحَرُّك دباباتك على الأرض، لا نضربهم ولا يضربوننا، وإن ضَرَبوا فبعض الصواريخ الإيرانية أو تلك الذاهبة الى الميليشيات… هذا من ضمن الاتفاق، وما كان عليكم إلا الصمت أو التنديد أو التحذير من أنكم ستردّون في المكان والزمان المناسبيْن، كما تفعلون دائماً، لأن أعداء الداخل بالنسبة إليكم أَهَمّ وأَوْلى من اسرائيل حالياً وصواريخ إيران بالنسبة إلى اسرائيل أَهمّ وأَوْلى من بقاء نظامكم أو ذهابه. ثم إن فيلم اسرائيل منذ 1973 لم يعد حتى بحاجة إلى بيان أو رد فعل، فكما تقولون باللهجة الشامية «دافنينو سوا».
لعبْنا كل أوراقنا مع الدول العربية والعالم، تارةً باسم محاربة الإرهاب وطوراً باسم الاتفاقات الاقتصادية وتسهيل الحلول. وعبَرْنا إلى جماعات المعارضة فشتّتْناها باسم توحيدها وأَوْجَدْنا مسارات جديدة تجاوزتْ الأمم المتحدة وجنيف. أثْبتنا لك أن السيطرة على الأرض تَنْتزع الأوراق في السياسة وأن كثرة الأوراق السياسية لا تنْتزع شبراً من الأرض. ولا تنسَ كيف نظّمْنا الصراع مع تركيا وأَقَمْنا منظومةً ثلاثية فيها إيران وجعلْنا الورقة الكردية التي حرّكتْها واشنطن مدخلاً إلى توافقات إقليمية.
ويختم كبير الوفد: السيّد الرئيس، ما زالتْ الأمور لم تُحسم نهائياً على الأرض، والساحة السورية مفتوحة على كل الاحتمالات والاستخبارات، إنما اليوم، ونقول اليوم دون أن ندري ما يحمله الغد، نجحنا في إقناع العالم عملياً ببقائكم حتى انتهاء ولايتكم وحقّكم في خوض انتخاباتٍ جديدة، والمطلوب تغيير جذري في مسيرة النظام وسلوكياته كي نتمكّن من التغطية ولو في الحدود الدنيا. لا بأس من انتهاء الـ 99.99 في المئة ومن وجود دستور مدني متقّدم، وفسْح المجال للمشاركة العامة، وانتهاء مسرحية انتخابات مجلس الشعب السمجة وتَحكُّم فريق داخلي طائفي بكل مفاصل الحياة العامة والخاصة. ولا بأس من حريات إعلامية وعامة وحرية المعارضة في التحرّك السياسي بأعلى سقْف وأيّ موقع. هل تعرف كم صحيفة وتلفزيونا وحزبا في روسيا ينتقدون يومياً بوتين وسياساته؟ هل تعرف كم تظاهرة وتَجمُّعاً ومسيرة ضدّه في عموم روسيا؟ ومع ذلك يفوز بشخصه أو بميدفيديف ويفوز تياره وتستمرّ خياراته.
… ماذا قلتَ؟ الكلام لكم.
هذا المتغطرس يفرض عليّ سلوكياتٍ لو فكّر فيها سوري واحد مجرّد تفكير لكان القبر سريره. أحبّ الإيرانيين أكثر رغم أن ابتساماتهم الكثيرة تستفزّني وأشعر بأن خلْفها أشياء مخيفة. المهمّ سأبدأ استيضاحاتي:
هل تطلبون مني أن أسمح بظهور شخص في التلفزيون يدعو لإحلال دولة مدنية مكان الدولة الأمنية؟ لولا الدولة الأمنية لانهار النظام منذ زمن طويل. وهل أسمح لشخصٍ بأن يكتب عن حصْر الثروة والسلطة في يد مجموعة معيّنة من إخوتي وأقاربي ومعارفي؟ أو أن يكون هناك قضاء نزيه ومعارضة حقيقية وتَداوُل سلطة ومؤسسات يلجأ لها الناس لتحصيل حقوقهم؟ هل أنتم في سويسرا؟
أصمت قليلاً وأتمنى ألا يكون الوفد الروسي قد أَكْثَرَ من الفودكا قبل اجتماعه معي. يعيدون تأهيلي؟ هذه آخرتها. إذا كتب تلميذٌ في مدرسة شعاراً على حائطٍ لا أسحب أظافره ولا أسجن أهله. إذا تظاهر أحد لا أعيده إلى ذويه أشلاء. إذا أَنْشد منشد أغنية سياسية لا أذبحه ولا أرمي حنجرته في النهر. إذا تجمّع الأهالي في طابور أمام فرن لا أضربهم بالبراميل ثم أكمل ضرْب من تَجمّع لإنقاذهم. إذا تَقدّمتْ المعارضة في قرية لا أحرقها بالكيماوي. إذا حلّق الطيران فوق مبنى لا أقصفه وأهدمه على مَن فيه. وإذا احتجّ سكان بلدةٍ لا أحاصرهم ولا أجوّعهم… فعلاَ مَن يَهُنْ يَسْهُل الهَوان عليه.
أتابع: أيها السادة، أشكر كل ما فعلتموه وأقدّر مطالبكم، إنما أحتاج الى وقت كي أهضم مقترحاتكم، فمَن شبّ على شيء شاب عليه. بلادكم متقدّمة في الطب وتعلمون أن الأعراض الانسحابية للمدمنين تحتاج أحياناً إلى سنوات كي تختفي…
لم يكن لدى كبير الوفد وقت ليتابع مداخلتي التي تأخذ ساعتين أحياناً. لمْلم أوراقه وطلب أن أردّ عليهم كتابةً، وأن أسلّم الرسالة إلى العسكري الذي أَوْقَفَني في حميميم ومَنَعَني من متابعة السير إلى جانب بوتين.

(*) كاتب لبناني


الرأي


المصدر
جيرون