جوع السياسة وتخمة العسكرة في سورية



غابة المتدخلين في سوريا، في السياسة وفي القتال المتعـدد، بوجود جحافل المخابرات المتحدة المتضادة، معا، جعلت الجغرافيا ساحة صراع بين مصالح متخالفة تدفع إلى الاعتقاد بوجود عدد كبير من الألعاب، بحيث لا يمكن أن يقتصر الحديث عن قواعد لعبة واحدة، بل قواعد ألعاب، والأحرى الحديث عن فوضى ألعاب. كما لا يمكن الحديث عن إدارة أزمة، بل إدارة أزمات، بمديرين من دول يكاد يضاهي عددها عدد دول الأمم المتحدة.
هي حالة غير مسبوقة في الصراعات الدولية الجامعة للسياسة والجيوش والمخابرات. فالعادة أن يأخذ الصراع شكل تنازع مصالح بين محاور، أو محورين كبيرين في الغالب، من الحربين العالميتين، إلى إدارة الحرب اللبنانية، مرورا بحرب فيتنام، وصولا إلى حرب أفغانستان.
وفي كل من تلك الحروب، كانت مكونات كل محور متجانسة إلى حد ما، على الأقل في الهدف، فأميركا لم تتصادم مع الاتحاد السوفييتي في حرب فيتنام بشكل مباشر، كون صراعهما جرى وفق قواعد الحرب الباردة.
أما في الحرب السورية، وعليها، فقد تصادمت مكونات كل محور مع بعضها مرات كثيرة، في “معسكر” المعارضين للنظام الأسدي، كما في معسكر الموالين، سياسيا على الأقل، بين محور إيران – الأسد المتحد، وبين روسيا التي تتقدم المحور في الترتيبات الدولية التي تلتقي حينا مع تـركيا، وتتصادم معها حين يتعلق الخلاف بأكراد سوريا.
ومثل هذا التصادم في المصالح لا ينطبق عليه تعبير “العلاقات الدولية” المتعارف عليه بين الدول والكيانات والمنظمات الدولية، فهو أقرب ما يكون إلى تنازع التجار، بالانحياز إلى حسن الظن، وأقرب إلى علاقات عصابات المافيا كما تدل عليها الوقائع.
الآن، المافيا الروسية تحل محل المافيا الأسدية، تمثلها أو تتعاون معها، تعضدهما المافيا الإيرانية بلبوسها السياسي المتوسع تأسيسا على فكرة تصدير “ثورة الخميني”. لكن افتراض أن طاقة صبر الشعب الإيراني لا نهائية سيسقط مع نفاد صبر الشعب الإيراني، مع “بروفة” أولى في 2009، و“بروفة” حالية تجري منذ أسابيع، ليجد الإيرانيون أنفسهم يواجهون مافيا الداخل على خطى مواجهة السوريين للمافيا الأسدية التي انتهى أبدها، ودخلت في مرحلة احتضار بطيء دفع ثمنه حتى اليوم عموم الشعب السوري.
وإذا أردنا تجنب الحـديث عن نصر حاسم وقريب للنظام، أو للمعارضة، يمكن القول إن “المباراة” ستنتهي بالنقاط، وليس بالضربة القاضية، بالنظر إلى أن مآل المافيات السياسية الموسعة، عموما، سينتهي بزوالها تدريجيا، وتماما، أو بحلول عائلة مافيوية محل أخرى. وعلى التخصيص، ستتماثل المافيات الروسية – الأسدية – الإيرانية، في أحسن الأحوال، مع مافيات صقلية ونيويورك، وتستحيل إلى مافيات اقتصادية كامنة تلعب من وراء الستار لتحافظ على مصالحها متعاونة مع الفساد المستقر حتى في بلاد تقدّس الدساتير والقوانين.
في المدى المنظور، ستنتشر المافيات الثلاث المتدخلة في سوريا، وتمد جذورها وأغصانها كلما طال زمن فشل المعارضات المسلحـة في تحقيق هـدف إسقـاط النظام. أما ما سيعجل بتحول هذه المافيات، أو زوالها، فيبدأ بشكل أساسي، بفهم المعـارضات السـورية، السيـاسية والعسكرية، لميكانيزمات فشل المافيات الثلاث، واستثمار هذا الفشل، وتعميقه، وتسريع حـركته. وما دامت المافيات الثلاث ورعاتها يعولون على إطالة زمن بقائهم، سيكون على المعارضات تأجيل هزيمتهم، على الأقل.
وفي ما يتعلق بملامح تكتيك المافيا الروسية، والمافيا الإيرانية، الغريبة عن الأرض السورية، على عكس المافيا الأسدية الخبيرة بهندسة إذلال السوريين طوال 48 سنة على الأقل، فتكتيكها يشبه “ألعاب الجوع” الافتراضية في سلسلة الأفلام الشهيرة، وهي أبعد ما تكون عن مجتمع جورج أورويل (في رواية 1984)، فالبناء المحكم للفوضى الرأسمالية، حيث فكرة السوق الواعية والرشيدة، و”دعه يعمل دعه يمر”، لا يشبه قوة القهر قصيرة المدى المؤسسة للمافيا التقليدية، والقوانين الوضعية الجائرة في السوق الرأسمالية لا تشبه لعبة الدم التي تقتات عليها المافيا، كما لا تشبه مطلقا حتى أسوأ قوانين الغاب الافتراضية غير الموجودة حقا سوى في ألعاب البشر الذين خرجوا من الغابة منذ ما لا يعلم أحد.
والحاجة إلى إعادة ترتيب أوراق اللعبة – الألعاب تفترض وجود لعبة في الأصل، وهو ما لم يكن موجودا في سوريا، كون اللعبة تحتاج إلى فريقين على الأقل. ولأن المافيا كانت حريصة على عدم تحقق شروط المنافسة في السياسة، كما في الاقتصاد، واستتباعاً منهما إلى المجتمع الذي اكتفى بالخوف صديقا، على المستوى الكلي والفردي، فقد ظهرت حالات مقاومة فردية لم تشكل اختراقا للعبة المنفردة التي بدأ عنفها الشديد يزداد شراسة منذ بدايات ثمانينات القرن الماضي إلى لحظة موت الرئيس السابق حافظ الأسد في يونيو عام 2000، لتنطلق حركة مجتمعية بدأت خائفة ومترددة، لكنها أوصلت السوريين إلى تباشير الثورة في مارس 2011.
آخر ما أعلن عنه محور “التحالف – قسد” هو الاتفاق على تشكيل جيش قوامه 30 ألف مقاتل نصفهم من “قوات سوريا الديمقراطية”، أي الميليشيات الكردية، لحماية حدود تواجد قسد مع العراق وتركيا. الموقف الرافض للخطوة الأميركية بدر من تركيا وروسيا والنظام الأسدي، على الرغم من وجود تركيا في التحالف الدولي ضد داعش، حيث احتجت تركيا بتجاهلها وعدم مناقشة هذه الخطوة معها قبل اتخاذ قرار مؤثر على أمنها القومي. كل هذا دون معرفة موقف العراق المنشغل حاليا بالتحضير للانتخابات النيابية الشائكة.
أما عن المعركة الدائرة في جنوب شرقي إدلب، والهجوم التركي وشيك الوقوع على عفرين، فقد جمعا محور “الأصدقاء الأعداء”، فالنظام الأسدي رافض للخطوة التركية، بينما تنسق تركيا مع روسيا على أعلى مستوى. وكل ذلك على الرغم من عدم وجود عداء صريح بين الأكراد وروسيا.
ويمكن النظر إلى الفوضى السورية نظرة أخرى مقاربة لمقولة مافيات الدولة، تستند إلى استمرار حالة العالم أحادي القطب الأميركي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث لم يتبلور حتى اليوم القطب العالمي الثاني، أو أقطاب أخرى.
فروسيا استحالت إلى حكم مافيوي، رغم امتلاكها الترسانة العسكرية النووية الكبيرة، وآبار النفط والغاز، والصين منكفئة في منطقتها عسكريا، ومكتفية بخوف العالم من نموها الاقتصادي، وطموحها السياسي المغلف بالابتسامة الصينية المحيرة. ما يعني أن الفاعل الأميركي لا يزال يمسك بخيوط ألعاب يحرك بها حلفاءه، دون أن يتصادم بروسيا وتركيا بشكل مباشر، تاركا لهؤلاء ردود أفعال تظنها أفعالا، لكنها تجري على هامش السياسة.
دليل ذلك إتخام الأرض السورية بالعسكرة التي لم تحسم موقفا في الأراضي المتنازع عليها في شمال وشرق سوريا، ولم تساهم سوى في زيادة خسائر المدنيين الذين لا رأي لهم، ولا فعل، في بازار سياسة الأقطاب أو المافيات.

(*) كاتب سوري


العرب


المصدر
جيرون