مأساة إدلب وعفرين… ومأساة ثورة السوريين



للثورات أثمانُها، وهذا صحيح، إذ على هذا النحو يشتغل التاريخ، مع الأسف. وما ينبغي إدراكه أيضًا أن الثورات ليس مقدرًا لها أن تنتصر حتمًا، إذ هي قد تفشل، أو ربما تُحرف عن مقاصدها الأساسية، أو قد تحقق بعضًا من أهدافها، إلا إنها في كل الأحوال تكون قد أحدثت تصدّعًا في الصخرة الصلبة التي تأسّس عليها الاستبداد، وفتحت ثغرة لرياح الحرية، وهو ما فعلته الثورة الفرنسية (1789)، التي فشلت، لكنها نشرت إشعاعها المتعلق بالحرية والعقلانية والديمقراطية والتنوير في العالم، ولا سيما في أوروبا. على ذلك يمكن القول إنه لا يمكن الاشتراط على الثورات، عندما تندلع؛ لأنها تأتي عفوية كالبراكين، إذ لا يمكن هندستها أو التنظير عليها، وهذا يعني أن تأييد الثورات ينبع من القيم التي تحملها: قيم الحرية والحقيقة والعدالة والكرامة الإنسانية، ومن التعاطف مع الضحايا، وتوقهم للخلاص.

من المنظور ذاته، يمكن التعاطي مع الثورة السورية التي وُصفت عن حق بأنها ثورة مستحيلة ويتيمة وأكثر تعقيدًا، إلا أنها عرفت، أيضًا، بأنها الأبهظ ثمنًا من بين مجمل ثورات “الربيع العربي”. فمنذ البداية، تم فض التظاهرات بالهراوات وعصابات الشبيحة، وتم فضّ اعتصام السوريين في ساحتي الساعة في حمص والنواعير في حماة، بالرصاص والدبابات، ومنذ البداية بلغ متوسط عدد الشهداء حوالي 400 من السوريين، شهريًا، وهذا في العام الأول للثورة، وإبان النضال الشعبي السلمي. طبعًا لا داعي للاستطراد هنا عن وأد الثورة بالبراميل المتفجرة وبالصواريخ الفراغية والارتجاجية، لإيقاع أكبر قدر من الأذى بالسوريين، واقتلاعهم من بيوتهم ومن حياتهم، وتشريدهم في أصقاع الدنيا، كما لا داعي للحديث عن خراب العمران في مدن سورية عديدة، إذ ثمة حكاية لكل سوري، وثمة مأساة في بيوت معظم السوريين، ويمكن الحديث عن مأساة المدن: درعا وحمص وحلب والرقة ودير الزور والزبداني ومخيم اليرموك والغوطة وبرزة وداريا.. إلخ.

هذه المآسي هي جزء من آلية عمل النظام وحلفائه (إيران وروسيا) لوأد توق السوريين للحرية والكرامة والمواطنة، وإخضاعهم لاستبداد “سوريا الأسد إلى الأبد”، بيد أنها، أيضًا، في جزء منها ناجم عن اعتمادية الثورة أو المعارضة على هذه الدولة أو تلك، أو ارتهانها لها، وناجم عن تمكين بعض الفصائل المشبوهة من فرض هيمنتها عليها، متغطية بخطابات دينية أو طائفية أو إثنية، كما أنه ناجم من فقدان قدرة المعارضة على توليد مركز سياسي واجتماعات وطنية تخدم مصالح السوريين، من خارج الأجندات الإقليمية والدولية.

اليوم، يقف السوريون في مواجهة مأساة جديدة في إدلب، بدعوى هيمنة “جبهة النصرة”، وفي عفرين، بدعوى هيمنة “قوات سوريا الديمقراطية” (التي يقودها حزب “ب ي د”). وفي كلتا الحالين نحن إزاء حلول عسكرية لمدن يعيش فيها مئات ألوف المدنيين، معرضين للتشرد، أو للموت تحت القصف. وفي الحالين، نحن إزاء معارضة باهتة لا تقول رأيها على نحو واضح وجريء متمثلة مصالح شعبها، ومحتفظة باستقلاليتها عن الأجندات الإقليمية.

في ما يخص إدلب، فإن كل يوم يمرّ يؤكّد أن ثورة السوريين ابتليت بـ “جبهة النصرة”، وأخواتها “إخوة المنهج”، فهذه الفصائل، التي تغطّت بالدين والطائفية، ليس فقط شكّلت انشقاقًا وتصدعًا في الثورة والمجتمع، ووقفت ضد توق السوريين المشروع للحرية والمواطنة والعدالة والديمقراطية، وإنما كانت، أيضًا، بمثابة أداة في أيدي القوى الإقليمية، وكجزء من حالة ثورة مضادة، ما يفسر هيمنتها الاستبدادية في “المناطق المحررة”، أو الخارجة عن سيطرة النظام، وما يفسر، أيضًا، انسحاباتها المتوالية من هذه المنطقة أو تلك، تبعًا لأجندات مريبة، تتعلق بتقاطعاتها مع النظام، أو مع أجندات إقليمية، كما شهدنا سابقًا في القصير والزبداني واتفاقية المدن الأربع، وفي أواخر 2016 في حلب؛ ما أدى إلى خسارة المعارضة لمواقعها، وهو ما يحصل اليوم في أرياف حلب وإدلب وحماة.

أما بالنسبة إلى عفرين، فثمة خطأ كبير، ويحتمل مخاطر جمّة، وهو ناجم عن سياسية القوة المهيمنة في هذه المدينة (ب ي د) ومن السياسة التركية، إزاء معالجة المسألة الكردية في هذه المدينة وفي سورية إجمالًا؛ ما يمكن أن يرتد سلبًا على تركيا ومكانتها، كما على الكرد وعلى ثورة السوريين. وفي الحقيقة، ثمة وسائل أخرى غير عسكرية لحل الخلاف، وهذه مسؤولية تركيا كونها هي الدولة، كما أنها مسؤولية (ب ي د) الذي رفع صور أوجلان في الرقة، ويتصرف كأنه امتداد (ب ك ك) في سورية. وباختصار: إن هذين الطرفين يتحملان المسؤولية عن خلطهما بين المسألة الكردية في تركيا وفي سورية، في حين يجب التمييز بينهما، وضمن ذلك فك التماهي بين (ب ي د) و (ب ك ك).

في الغضون، لا يمكن فهم، ولا قبول، التسامح مع “جبهة النصرة”، من قبل عديد من الأطراف، وضمنها بعض أوساط المعارضة، في حين يجري التعامل مع (ب ي د) على نحو آخر، بغض النظر عمن هو أكثر خطورة من الآخر، بحسب معتقدات كل طرف أو اتجاه.

على ذلك؛ فإن الخشية الآن هي من أن تُكرر تجربة حلب، إذ كان ثمن عملية “درع الفرات” الأولى إعادة هيمنة النظام هناك، ويبدو أن الثمن في الثانية قد يترتب عليه إعادة هيمنته على إدلب ربما. المشكلة في كلتا الحالين أن المعارضة مسؤولة بصمتها، وبعض فصائلها العسكرية مسؤولة بالمشاركة، والسؤال المطروح: إلى متى ستدرك المعارضة أن ثمة فرقًا بين حسابات الدول وحسابات الثورة؟ ومتى ستدرك أنها مسؤولة عن حقوق ومصالح شعبها، قبل أي شيء أو أي أحد آخر؟ وإلى متى ستدرك أن التدخل مع الأطراف المعنية (تركيا والقوة الكردية الأساسية في عفرين) لإيجاد مخارج من هذا الوضع، وتلافي احتمالاته الكارثية، بدل التفرج على ما يجري، باعتبار الكرد جزءًا من شعب سورية، وما يجري سوف يؤثر على السوريين وثورتهم، بخاصة مع دخول العامل الأميركي على الخط. فهل ثمة في المعارضة من يمتلك الشجاعة والاستقلالية لفعل ذلك؟

باختصار: إن أهم ما ينبغي أن تدركه المعارضة، بعد كل هذه التجربة الصعبة والمكلفة، أن أحدًا لن يفعل شيئا للسوريين لا يريدون أن يفعلوه لأنفسهم، للخلاص من هذه الحالة والخلاص من الاستبداد بكل أشكاله وتعبيراته.


ماجد كيالي


المصدر
جيرون