ديوك طائرة



لا أستطيع الجزم بأن دافع هجرتي الثانية كان عاطفيًا، فنحن كعائلة سورية، اعتدنا ركوب الحمير أولًا، عندما كان الحمار وسيلة التنقل الوحيدة، ثم تلته السفن، وبعد ذلك الطائرات. أهملت عامدًا متعمدًا التنقل عبر القوافل والجمال، خوفًا من تقديم دليل وبرهان لبعض السوريين الذين سارعوا، بعد الثورة، إلى اتهامنا بالبداوة، والقول إن أصلنا ليس سوريًا وإنما من البدو (العرب)، الذين زحفوا من أعماق الصحاري لاحتلال “سورياهم” الحضارية. سافر جدي في العشرينيات من قريته في جبال العلويين، إلى مدينة طرابلس، قبل أن تصبح لبنانية، ومن هناك، صعد سفينة متجهة إلى الأرجنتين، وعندما سأله موظف الهجرة عن الوثائق التي معه، قال له: أنا إبراهيم بن سليمان سعد، من خربة حزور، وهذه هويتي، ومقصدي هو “بنو سيرس”، حسب لفظها من قبل السوريين في ذلك الوقت. كان المهاجرون السوريون في ذلك الزمن يعرفون أن الهجرة تتم إلى نيويورك، أو آيرس، أما أنا وإخوتي فكان من نصيبنا استخدام الطائرة. لاحظوا أن كل هجراتنا كانت باتجاه “الغرب” دائمًا، ولاحظوا -أيضًا- أن سفر جدي وقع بعد دخول الفرنسيين إلى سورية “لحماية الأقليات”، وسفري أنا وإخوتي وقع بعد وصول “حامي الأقليات” الأب والابن إلى السلطة، يعني بالعربي الفصيح، لا علاقة لهجرتنا، لا بالإسلام المعتدل ولا بالمتشدد، وقبل أن نسمع صيحات “جيناكم بالذبح” بسنوات، كان المقام قد استقر بنا في غوادلوب وسويسرا وكندا وألمانيا.

كما قلت في البداية، إن دوافع هجرتي الثانية كانت متعددة ومتداخلة، منها المعلن والمعروف، ومنها الضمني والمستور، ككل فعل إنساني. فالذهاب من كندا شتاء نحو الجنوب، يقول ببساطة إن السبب هو مناخي طبيعي؛ الانتقال من درجة حرارة25  درجة تحت الصفر إلى 25 درجة فوق الصفر، أو النزوح من المنطقة القطبية الشمالية إلى منطقة خط الاستواء، والسبب المعلن الآخر زيارة أخي المقيم في غوادلوب منذ34  عامًا، وزيارة قبر أخي الآخر المدفون هناك منذ 13 سنة. أما الأسباب التي لا يتم الإعلان عنها، عادة، فهي الهرب من زوجتي ونقّها الدائم من الفقر، ولعن الساعة التي تعرفتْ فيها عليّ، وعلى مَن كان السبب في ذلك، وبخاصة بعد أن نفدت صلاحيتي كزوج. السبب الآخر هو ضرب أخي منيّة بزيارتي، وربما، الحصول منه على بعض “اليوروات” الفراطة، التي تساعدني في البحث عن “سمراء” غوادلوبية، تعيد لجسدي حرارة الشباب، التي هاجرت بدورها من جسدي لتستقر في أجساد أولادي الشباب.

كان يمكنني اللعب بعواطفكم، والحديث عن قربي الجغرافي من “ترامب” وعداوته العرقية لنا كعرب، وعداوته الدينية لنا كمسلمين، وقدرتي على إيصال شتائمي إلى حيطان البيت الأبيض، ولكنني شعرت أن انتهازيتي هذه ستكون مكشوفة ورخيصة، لا تقدم أو تأخر، في مصير الشعب السوري المذبوح كذبح الديكة قبل مغادرتها “أقنانها”، والوصول إلى مزابلها. وبدلًا من الحديث السخيف عن “ترامب”، قررت الحديث إليكم عن شيء جديد عرفته بعد وصولي إلى غوادلوب، صحيح أنها معلومة صغيرة، ولكنها تبقى مفيدة أكثر من شتم “ترامب” أو غيره.

في غوادلوب لا مساكن للدجاج، ولا أقنان للنوم أو أعشاش للبيض، ولا توجد بالتالي “مزابل”، كالتي في بلادنا، لا أعني المزابل الفكرية والثقافية كالتي صنعها اتحاد الكتاب العرب، وراكمها في فندق الشام مؤخرًا، وإنما قصدي مزابل الزبل الطبيعي، حيث يُجمع روث الحيوانات، وترتفع المزبلة مع الوقت، إلى درجة تغري ديوك الدجاج بالوقوف عليها والصياح، لتذكير الدجاجات بأنهم موجودون في الجوار وجاهزون لتقديم خدماتهم. هنا الدجاج لا يعيش في أقبية الأمن، بل يعيش كطير بري، في الطبيعة، غير مدجن. والدجاجة تبيض في الحقول، وتضع بيضها في عش تبنيه لنفسها في مكان ما، وعندما يفقس، نرى الدجاجة تسير في الحقول ووراءها الصيصان. وفي الليل تنام الدجاجات والديوك على أغصان الأشجار. كما أن دجاج غوادلوب يطير من مكان إلى آخر كالحمام تقريبًا، ولحمه قاس غير محبذ أكله، لذلك لا تضطر الدجاجات إلى عبور الحواجز التي يشكلها أنصار الأسد السوريون في الجزيرة، ولا لدفع قيمة العبور من حي إلى آخر.

أخيرًا، تبقى الهجرة من الشمال إلى الجنوب مفيدة، رغم احتجاج “الطيب صالح” وموسمه، أو من الشرق إلى الغرب، ففي كل حركة بركة وفائدة، وفي كل سفر معرفة، لا يمكن تعويضها في كتاب أو فيلم سينمائي.


ميخائيل سعد


المصدر
جيرون