on
عفرين على صفيح ساخن
ارتفعت نبرة المسؤولين الأتراك، في الأيام الأخيرة، في تهديداتهم بعملية عسكرية تستهدف عفرين (ومنبج)، وهما جيبان تسيطر عليهما «قوات سوريا الديمقراطية» و»وحدات الحماية الشعبية» التي تشكل العمود الفقري لـ»القوات». وبلغ الأمر بالرئيس التركي أردوغان أن حدد موعداً تقريبياً لـ»توسيع عملية درع الفرات» باتجاه منبج وعفرين «في غضون أيام قليلة».
هذا تطور جديد عما ألفناه من تهديدات سابقة بشأن عفرين، بالأخص، ما كان ينظر إليها بجدية، بسبب صعوبة حصول تركيا على الضوء الأخضر من الروس والأمريكيين، كما بسبب صعوبة اجتياح عفرين وما يمكن أن يتكبده الجيش التركي من خسائر باهظة ستكون لها أثمان سياسية كبيرة أيضاً.
فما الجديد الذي شجع أردوغان على هذا الاندفاع في تصريحاته؟
يمكن الحديث، في تفسير ذلك، عن عوامل عدة، داخلية وخارجية. ففي المشهد السياسي التركي نرى أن أبرز ما يشغل الحياة السياسية التركية اليوم هو الاستعداد للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة مبدئياً في خريف العام 2019. هو موعد بعيد نظرياً، وقد تتغير جميع المعطيات القائمة اليوم إلى ذلك الحين. ولكن في حسابات أردوغان والحزب الحاكم، يكاد الوقت المتبقي حتى موعد الانتخابات لا يكفي لترتيب المشهد بحيث يخرج الحزب والرئيس منتصرين منها، تحول دون هذا الهدف تحديات خطيرة، من اتساع رقعة المتضررين من الحكم، إلى التململ المتنامي داخل قاعدته الاجتماعية، إلى التحديات الخارجية الكبيرة. وتدور تكهنات كثيرة حول احتمال تقديم موعد الانتخابات إلى صيف العام الحالي (15 تموز/يوليو، ذكرى الانقلاب العسكري الفاشل في 2016) إذا رأى أردوغان ـ البارع في الحسابات المتعلقة بأصوات الناخبين ـ أن هذا التقديم يمكن أن يخدم تطلعه إلى الفوز فيها.
وقد اتضحت معالم التحالفات السياسية، بإعلان رئيس حزب الحركة القومية دولت بهجلي عن دعمه لترشيح أردوغان لمنصب الرئاسة. وعلى رغم ضعف نفوذ الحزب القومي المتشدد، ثمة بيئة واسعة في الرأي العام التركي للتشدد القومي إزاء «الخطر الكردي» المفترض، من شأن التحالف بين أردوغان وبهجلي أن يلبي تطلعاتها. في هذا الإطار الداخلي القائم على حسابات صندوق الاقتراع، يمكن قراءة التهديدات اليومية باجتياح منطقة عفرين «للقضاء على وحدات حماية الشعب» الموصوفة إرهابية لدى الحكومة التركية والمعارضتين القومية والعلمانية على السواء.
ولكن ما هو حظ تلك التهديدات بالتحول إلى عمل عسكري حقيقي؟
هنا يجب البحث عن الجواب في عوامل خارجية، أبرزها إعلان وزارة الدفاع الأمريكية عن نيتها إنشاء قوة عسكرية مدربة من 30 ألف مقاتل، نواتها «قوات سوريا الديمقراطية» لـ…. حماية الحدود مع تركيا والعراق وخط نهر الفرات الذي تسيطر على غربه وجنوبه ميليشيات أسدية ـ إيرانية! كلام يعني عملياً إقامة كيان للنفوذ الأمريكي، في شمال شرق سوريا، له حدود بحاجة إلى حماية.
وإذا كان هذا الإعلان موجهاً، بصورة رئيسية، إلى روسيا التي أعلن رئيسها بوتين النصر في سوريا قبل شهرين، فهو موجه أيضاً إلى تركيا التي رأت في ذلك تهديداً مباشراً لأمنها القومي، فردت بالتهديد باجتياح منبج وعفرين.
لكن الاستراتيجية الأمريكية إزاء سوريا التي يقال إنها تبلورت أخيراً، وسيتم الإعلان عنها قريباً بصورة رسمية، لا تقتصر على إقامة كيان شرق نهر الفرات تحت حمايتها. هذا ما يمكن استنتاجه من تصريحات المعارضتين السوريتين السياسية والعسكرية اللتين زارت وفود منهما العاصمة واشنطن، قبل أيام، وجاءت بأخبار جديدة. فتحدث مصطفى السيجري، قائد لواء المعتصم، الذي رأس وفد «الجيش الحر» في زيارة واشنطن، عن «استئناف الدعم الأمريكي لفصائل المعارضة المسلحة، ومواجهة النفوذ الإيراني في سوريا، ومحاربة الإرهاب» بوصفها مهمات «الجيش الحر» في المرحلة الحالية. «أكدنا استعدادنا كفصائل» يتابع السيجري قائلاً «للعمل ضمن برنامج جديد يهدف لمواجهة إيران والتنظيمات الإرهابية في سوريا».
معروف أن لواء المعتصم الذي يقوده السيجري هو أحد فصائل درع الفرات المدعومة من الحكومة التركية. إنها سابقة في السياسة الأمريكية تجاه سوريا، قبل كل شيء، مجرد استقبال وفد من المعارضة المسلحة. وتزداد أهمية هذا التواصل بالنظر إلى علاقة هذه الفصائل بتركيا، بعد سنوات من التوتر الأمريكي ـ التركي بسبب تحالف الأمريكيين مع قوات حماية الشعب الكردية. من المحتمل إذن أن الأمريكيين يسعون إلى نوع من التوازن في علاقاتهم بكرد سوريا وبتركيا، على أمل إبعاد تركيا عن روسيا وإخراجها من إطار «ثلاثي سوتشي». فهل يكون ثمن تطبيع العلاقات الأمريكية ـ التركية تخلي الأمريكيين عن حليفهم الكردي في عفرين بموازاة استمرار التحالف شرقي نهر الفرات؟ هذا ما يمكن أن يكون قد شجع أردوغان على رفع حدة تهديداته باجتياح عفرين. ربما في هذا الإطار جاء تصريح الناطق باسم التحالف الغربي لمحاربة داعش الذي قال إن عفرين ليست داخل مناطق عملياتنا. فهذا التصريح يمكن قراءته كضوء أخضر أمريكي لتركيا.
أما من ناحية الروس، فمن المحتمل أنهم وافقوا على اجتياح تركي لعفرين مقابل موافقة أردوغان على تمثيل حزب الاتحاد الديمقراطي، بصورة غير مباشرة، في اجتماع «الشعوب السورية في سوتشي» بصفة مستقلين. لكن واقعة استدعاء السفيرين الروسي والإيراني في أنقرة إلى وزارة الخارجية التركية، تشير إلى أن التفاهمات الروسية ـ التركية بشأن إدلب واجتماع سوتشي أصبحت تواجه خطر التلاشي، ربما بسبب الإشارات الإيجابية، المذكورة أعلاه، القادمة من واشنطن إلى أنقرة.
إذن هل تتحول التهديدات التركية إلى عمل عسكري في عفرين فعلاً، أم هي رسائل ابتزاز لواشنطن وموسكو، وإرضاء للحليف القومي المتشدد في المشهد السياسي الداخلي في تركيا؟
يبقى العامل الميداني الذي لم نتطرق إليه إلى الآن. فمنطقة عفرين جبلية وعرة، تنتشر فيها قوات وحدات حماية الشعب المسلحة جيداً من قبل الأمريكيين. كما أنها المنطقة التي قدمت لحزب العمال الكردستاني أكبر عدد من المقاتلين، منذ الثمانينيات، لمحاربة الجيش التركي. وعموماً لا تتمتع تركيا، في الرأي العام الكردي في عفرين، بأي مشاعر مودة. مجموع هذه العوامل يجعل من أي اجتياح محتمل مغامرة مكلفة جداً. لذلك تحدث أردوغان في أحدث تصريحا ته عن أن العملية المحتملة ضد عفرين ستتم بقوات من الجيش السوري الحر.
(*) كاتب سوري
القدس العربي
المصدر
جيرون