on
ليس دفاعًا عن عبد الناصر
لا يمكن لكل من تفتح وعيه في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، على المشروعين القومي والاجتماعي الصاعدين آنئذ، أن يشهد اليوم مرور مئة عام على ولادة جمال عبد الناصر (1918)، دون القيام ببعض التأملات في معاني مرحلة دامت ثمانية عشر عامًا، تبدو اليوم مثل حلم استحال إذ انكسر كابوسًا، بعد أن تلاشى بعضها في غمرة مختلف المراحل التي تلتها والتي عملت على طمسها، أو بروز بعضها الآخر على حساب أو مكان البعض الأول، بوصفها أصل البلاء الذي ساد العالم العربي، ولا سيما في ظل الأنظمة التي توالت على الحكم، من معمر القذافي في مرحلته الثانية في ليبيا، إلى حافظ الأسد ووريثه في سورية، إلى زين العابدين بن علي في تونس إلى صدام حسين في العراق..
فمنذ رحيل جمال عبد الناصر عام 1970، انقسم الذين تصدوا لتقييم مرحلته ونظامه وشخصه إلى فريقين رئيسَين: أحدهما، ويقف في مقدمته “الإخوان المسلمون”، كان قد ناهضه العداء طوال فترة حكمه، وعمل بكل الوسائل على تدمير نظامه، ثم تحول بعد وفاته إلى تدمير ذكراه، مركزًا على شخص عبد الناصر ومهملًا نظامه بمحاسنه وبعيوبه؛ والآخر الذي، وهو يعلن انتماءه إلى ما بات منذئذ يحمل اسم “الناصرية”، كان قد تبنى، قلبًا وقالبًا، من دون أي مراجعة نقدية جادّة، نظامَ عبد الناصر وشخصه معًا، مدافعًا عن، أو مركزًا على المنجزات، متناسيًا أو متجاهلًا الأخطاء المميتة والثغرات الخطيرة.
ذلك أمر طبيعي ولا شك في مجال دراسة أي مرحلة حافلة بالأحداث، ولا سيما تلك التي جسدتها أو طبعتها شخصية استثنائية على الصعد كافة. هكذا كان الأمر في تقويم المرحلة الديغولية بفصليْها: مقاومة الاحتلال الألماني لفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية، وتأسيس الجمهورية الخامسة في عام 1958؛ أو في تقويم المرحلة الستالينية، أو في تقييم سواهما من المراحل المماثلة. لكن المفارقة المثيرة، في تقييم مرحلة عبد الناصر هنا، أن الفريق الذي تبناه وحمل اسمه وقدّم نفسه بوصفه الأمين على تراثه، تجاوز الفريق الآخر، الخصم، لا في عدائه ومناهضته من حيث لا يحتسب فحسب، بل في تشويه سمعة إرثه وصولًا إلى درجة خيانته لهذا الأخير في صفحاته الناصعة، حين تبنى صفحاته الأخرى الأكثر سوادًا وسوءًا، وهو يمالئ طغاة العرب وينتصر لهم.
هكذا أساء الفريقان معًا، سواء في عدائهما أو في انتصارهما لمرحلة عبد الناصر، إلى الأجيال التالية في قراءتهما لمرحلة، يصعب على من عاصرها مواطنًا عاديًا بعيدًا عن أي ارتباط أيديولوجي بهؤلاء وأؤلئك، أن ينسى لحظات الكرامة التي عرفها خلالها في أجلى معانيها أو لحظات الهزيمة التي كابدها في أقسى تجلياتها. وسيكون من الصعوبة عليه بمكان أن يخلط اليوم بين الأزمنة والمراحل والأدوار، فيُمَاهي من ثمَّ، وهو يفعل ذلك، الأضداد فيها ما بينها.
ربما كان من الأجدى لنا، في هذه الحالة، من أجل محاولة فهم ما نحن فيه اليوم من كوارث لم تعد وقفًا على بلد عربي بعينه، بقدر ما تكاد تشمل العالم العربي بأسره، بصورة أو بأخرى، أن نبذل بعض الجهد في استعادة العناصر الأساس في مرحلة عبد الناصر، بعيدًا عن أحكام القيمة السريعة سلبًا أو إيجابًا، وذلك انطلاقًا من فرضية مفادها أن هذه المرحلة، التي شهدت تحرر الدول العربية كافة، فضلًا عن تحرر الكثير من دول آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، والتي يمكن اعتبار بداية السبعينيات من القرن الماضي نهايتها، تختلف اختلافًا جذريًا عن المراحل التي تلتها، أي تلك التي بدأت أولاها مع سبعينيات القرن الماضي، وإن كان يبدو للنظرة المتسرعة وجود بعض التشابه بينها في هذا المجال أو ذاك. ذلك أن للفروق الدقيقة في هذا الميدان وزنها الذي لا يمكن في غمرة الحماس إهمالها لأي سبب من الأسباب.
لم تكن حركة الضباط الأحرار التي نفذت عام 1952 بقيادة عبد الناصر مجرد حركة عسكرية تستهدف قلب نظام الحكم الملكي، بقدر ما كانت تتطلع إلى تحقيق مشروع سياسي يستعيد المشروع الأساس الذي حاوله، قبل حوالي قرن ونصف من قيامها، محمد علي من أجل إقامة دولة حديثة تحتلُّ، بحكم موقعها الجغرافي، موقع المركز وسط العالم العربي. سيستأنف عبد الناصر هذا المشروع، وهو يرى مصر في المركز من الدوائر الثلاث: العربية والإسلامية والأفريقية. ولذلك انصب همّه، منذ البداية في آن واحد، على تحرير مصر سياسيًا من الاستعمار البريطاني أولًا، واستعادة قناة السويس عبر تأميمها، وعلى القيام بمجموعة من المشروعات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى، بدءًا بالإصلاح الزراعي ومضاعفة الأراضي الزراعية وتعميم الكهرباء على الأراضي المصرية بواسطة مشروع السد العالي، مرورًا بالتعليم والثقافة.
لكن مفهوم التحرر الذي بدأ بشعار “إرفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد” لم يقف عند الاكتفاء بجلاء الجيش الإنكليزي عن مصر، بل امتد ليشمل دعم ثوار الجزائر في حرب تحريرهم، وكذلك دعم مختلف حركات التحرر في البلدان العربية والأفريقية، حتى صارت القاهرة وعنوانها الأساس. كان ذلك على وجه التحديد هو السبب الخفيَّ الأساس وراء غضب القوتَين الاستعماريتَين الكبريَين في خمسينيات القرن الماضي، ومن ثم قيامهما مع “إسرائيل” بالعدوان الثلاثي على مصر، إثر تأميم قناة السويس بهدف إسقاط عبد الناصر. لم يحقق العدوان أهدافه، بل ربما كان سببًا في تثبيت زعامة عبد الناصر في مصر، وفي مدِّها إلى العالم العربي.
ولكن، إذا أسهم العدوان الثلاثي -وهو عدوان خارجي بامتياز ضد دولة تناضل للتحرر بكل معانيه- بصورة حاسمة في بناء أسطورة عبد الناصر؛ فإن خيارات السياسة الداخلية التي اعتمدها في الداخل المصري كانت السبب الرئيس في تهشيم هذه الأسطورة. فقد قامت على حلِّ الأحزاب وإحلال هيئة واحدة جامعة محلها (هيئة التحرير، ثم الاتحاد القومي، ثم الاتحاد الاشتراكي)، مثلما قامت على “تفضيل أهل الثقة على أهل الخبرة”، كما شاع في تلك المرحلة، أي اعتماد من كان حوله من الضباط الأحرار، رغم التفاوت الكبير في قدراتهم ومواهبهم وإمكاناتهم السياسية، كي يكونوا من حوله في مواقع الحكم الرئيسة في البلاد. هذا فضلًا عن هيمنة الهيئة الأمنية المتمثلة في المخابرات التي رأسها طويلًا صلاح نصر في مصر، وعبد الحميد السراج في سورية، إبّان فترة الوحدة، ومآثرها في كبت الحريات. لم يؤثر ذلك، في الحقيقة، على مسار مختلف المشروعات الكبرى فحسب، بل كان أيضًا سببًا في نشوء مراكز قوى تتصارع في ما بينها، بحيث أدى صراعها هذا لا إلى كسر مشروع عبد الناصر نفسه وتهميشه هو نفسه فحسب، بل إلى ما هو أخطر من ذلك: إلى هزيمة مصر في حرب حزيران/ يونيو 1967 التي اعترف بمسؤوليته كاملة عنها.
ومع ذلك، أو رغم ذلك، تميزت مرحلة عبد الناصر بامتلاكها مشروع دولة حديثة، ومجتمع قوامه الكرامة والعدالة والمساواة لمواطنيه، وبإنجازات كبيرة ومهمة في هذا المجال، لا يمكن إنكارها أو تجاهلها. وتلك هي نقطة الاختلاف الجوهرية بين عبد الناصر والطغاة العرب الذين جاؤوا من بعده.
قد يمكن القول إن عبد الناصر أسس نواة الدولة الأمنية التي سيتبنى مثالَها الطغاة العرب الآخرون بهذه الدرجة أو تلك. لكن الفرق الدقيق هنا -وهذا للتاريخ على الأقل- أن هذه النواة لم تؤسس لتثبيت أو لحماية أو تأبيد سلطته الفردية. ذلك أنه، فعلًا لا قولًا، كان يستمد سلطته الحقيقية من شعبه الذي كان هو من رفض استقالته، على إثر هزيمة حزيران، وبكاه كما لم يبك شعب قائده يوم رحيله.
وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى سواه كالقذافي أو حافظ الأسد.. لم يكن من همٍّ لهؤلاء سوى سلطتهم، وليس الخراب القائم اليوم في ليبيا أو في سورية إلا شاهدًا حيّا على ذلك.
تعمى عيون كثيرة اليوم عن رؤية هذا الفرق الدقيق والحاسم. ويسهم في تعميم هذا العمى، لا معظم من يزعمون حمل الإرث الناصري فحسب، بل كذلك الكسل الفكري أو الجهل السياسي الذي قام الطغاة، الذين توالوا على الحكم منذ رحيل عبد الناصر، بتعميمه على مجتمعاتهم.
بدر الدين عرودكي
المصدر
جيرون