أصواتٌ قديمة



كان يرافقنا في طفولتنا، كظلٍّ فقد صاحبه، طفلٌ غريبٌ ومقطوعٌ في مثل عمرنا، لا يُشاركنا ألعابنا ولا أحاديثنا حتّى جزمنا بخرسه أيضًا. لم يكن أحد يعرف له اسمًا ولا عائلة ولا بيتًا.  يحملُ مخروطًا ورقيًّا صغيرًا يدور به بيننا وحولنا يجمعُ فيه الهواء، هكذا كنّا نعتقد.

أين كان يذهب بالهواء الذي يجمعُه من حولنا؟

لم نعرف. يبدو أنّه كان يحفظهُ في مخروط أكبر أو في غرفة حديديّة محكمة الإغلاق. مخاريط ورقيّة كثيرة تكدّست في مكانه البعيد، كنّا نقول ساخرين.

حينما كنّا نركض أو نضحك أو نتجادل حتّى تنقطعَ أنفاسنا، نصرخُ به أنْ أعطِنا ما جمعت من هواء، يا حقير. يغلقُ مخروطَه الورقيّ بعناية ويهرب بعيدًا عن أنظارنا. ثمّ اختفى إلى الأبد، هكذا اعتقدنا.

شاخَ الحيّ وهرمنا نحنُ أيضًا، انحنت ظهورنا وسقطت أسناننا. هرمنا وظلّ الهواء كما هو نادرًا، فاسدًا وخانقًا. الكلام -أيضًا- صار ثقيلًا وموجعًا فنسينا أكثرهُ.

إلى أن ظهر الطفلُ الظلّ فجأة، لم يتغيّر أبدًا، بقي ظلًا كأنّه يبحثُ عن صاحبِهِ. وقف وسط الساحة يجرُّ مخروطًا ورقيًّا عملاقًا، صعد فوقهُ وضغط عليه بجسدهِ الصغير، فرّغ هواءَه حتّى همدَ وتقلّص. هرعنا جميعًا نلتقطُ أصواتَنا القديمة.

ماتَ كثيرونَ منّا مختنقين بأصواتٍ لا يعرفونَها، أو بجرعةٍ زائدةٍ منَ الكلامِ.. قليلونَ هم الذين نجوا من عاصفةِ الكلامِ الطارئة تلك، وكنت واحدًا منهم.. لم ننجُ تمامًا. وإلّا لماذا ظللنا سنواتٍ قبل أنْ نموتَ، لا نتكلّم إلاّ من مخروطٍ ورقيّ!


شيخة حليوى


المصدر
جيرون