الأدب السوري في زمن الحرب



مما لا شك فيه أن الحروب غنية بالمواد والأحداث الدسمة الصالحة للتناول في مجال الكتابة الإبداعية، كما أنها من هذا الباب عامل مهم لغزارة النتاج الأدبي. وقد استفاد الكتاب السوريون أيما استفادة من الحرب في كتاباتهم، ولا يكاد أي عمل أدبي يخلو من ويلات الحرب وشرورها. وهذا أمرٌ مشروع، كون الكاتب -أولًا وأخيرًا- ابن مجتمعه وصوت الإنسان الداخلي، بما يملك من أدوات لغوية وتعبيرية، تمكّنه من تجسيد هذا الصوت على شكل كلمات وخلق كيان يستشهد به. لكنه بمعظمه، أقول بمعظمه وليس كلّه، مجرّد عمل توثيقي يخلو من الجودة الأدبية والقوة البلاغية في طرح الحدث أو الفكرة، إذ يتعمّد إثارة المشاعر الإنسانية من عطف وشفقة وحزن لحال الشعب على حساب الجودة الأدبية للعمل، إما لضعف الموهبة لدى الكاتب، وإما استسهالًا واستخفافًا بالكتابة بشكل عام.

وقد ظن أكثر الكتّاب أن تناولَ القضايا الكبرى في الكتابة يعطي للعمل أهمية وانتشارًا وقبولًا لدى القارئ، الأمر الذي يسيء بطبيعة الحال لمسيرة الحدث الكتابي، فيسقط في فخ الرتابة والملل والسخف في أغلب الأحيان، والتقريريّة الجافّة في أحيانٍ أخرى. النص هو الذي يعطي الحدث عظمته وأهميته لا العكس. إنّ الانفتاح الكبير والهائل لحرية التعبير -وهو أمرٌ محمود جدًا- في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع والصحف الإلكترونية والهجرة إلى بلاد الغرب والنزوح عن مواطن الخوف المباشر من الكلمة، ساهم في خلق فوضى كتابية وتعبيريّة على كافة الأصعدة، بسبب التسابق المحموم على الكم لا على النوع. النشر لأجل النشر دون أي تقييم حقيقي أو واقعي للمادة المنشورة. كما أنّ التشجيع والاهتمام الذي لمسه الكاتب هنا حفزه على اعتماد هذا الشكل والأسلوب في طرح عمله، لكن المؤسف أن التصفيق الذي اعتمده الآخر أساء عن قصد، أو غير قصد، للعمل الأدبي؛ إذ اعتمد في أغلبه على المجاملات والعلاقات والتوجس، من إبداء أي رأي حقيقي أو نقد مدروس لتصحيح البناء الأدبي؛ ما أدى إلى التغاضي المروع عن غياب الإبداع، وعن فقر وضحالة الأسلوب واللغة، ليظهر بمظهر المهتم والمناصر الذي يدافع عن حقوق المظلومين والمقهورين. برز دور مهم -أيضًا- للمؤسسات المدعومة ماليًا في استقطاب الكتاب ومنحهم منصات وامتيازات كثيرة لاحتكار المشهد الثقافي، وحصره في أصوات لها نَفَس ومضمون واحد، وهذا أدى إلى تشكيل جماعات بعينها، تابعة لنمط ثابت من التعبير، دون مراعاة منها للمعايير الأدبية السليمة التي تتغير –طبعًا- بالتغير بين حالتي الحرب والسلم. وقد أنشأ هذا كاتبًا مقيدًا وكاتبًا أداة يتبع أجندات المؤسسة التي أهدافها ليست بالضرورة الإنسان وحرية التعبير، كما في بعض دور النشر التي أخذت على عاتقها إنتاج كل ما له علاقة بـ “البروباغندا”، مما أوجد أدبًا ركيكًا ومريضًا. للعالم الغربي –أيضًا- دوره المهم في دعم أصحاب هذا التوجه، فكما يخلع على الكاتب معطفًا وبيتًا ويفسح له منصّات النشر، يطالبه بصورة أدبيّة وغير مباشرة، بالكتابة عن الحرب والمأساة للمتاجرة بها، ولتحصيل نفقات الاستقبال ومكسب سياسي، دون الالتفات إلى جودة العمل، أو ربّما دون أن تكون في أول قائمة معاييره. ليست مهمة الكاتب أن ينقل ما شاهده بأم العين أو سمعه، فأي شخص يجيد سرد ووصف ما شاهد أو سمع، ولا يحتاج الأمر إلى كاتب أو شاعر، إذا كان يعجز عن أخذ هذا الوصف والسرد من فخ التوثيق الإخباري الجامد والحكاية الشعبية البسيطة التي تتغير بتغير مزاج الراوي ومزاج المستمعين. الأدب ليس نشرة أخبار أو برنامجًا حواريًّا لتبادل الصراخ والشتائم، وليس متسولًا مقطوع الأطراف يستجدي تعاطف المارة وفتات الطعام. إن أعظم الأعمال التي كتبت عن الحرب وأحداثها المؤلمة ترسّخت بفضل قوة الإبداع وجودة الحبكة واستخدام تراكيب وصور بلاغية تدهش القارئ، في إطار تقديم أدبٍ لا يرمى بعد أول قراءة أو ينسى في نهاية العمل. ليس الأمر بكم المعاناة وحجمها -بطبيعة الحال يميل الكاتب إلى المبالغة- بقدر أهمية الكيفية التي طرحت بها هذه المعاناة، وما ستقدمه للقارئ من أفاق نفسية وعقلية. الأدب العربي -قديمًا وحديثًا- مليء بأدب الحرب والهزائم والرثاء والخوف، ولم يستجد علينا جديد. فماذا بقي من هذه الآثار؟ الحرب تموت وتنتهي مهما طالت، تبقى ندوبها فقط وأدبها الجيّد. وربّما تندثر الندوب مع أصحابها، ويبقى الأدب، أدب الحرب صورة رائعة للجرح والندبة معًا.


عماد الزير


المصدر
جيرون