الحالة الدرزية



يمكن الحديث عن “حالة درزية” خاصة، عبر مجموعة من العوامل التي أسهمت في بلورة شخصية لها تمايزاتها المذهبية والثقافية، زادتها قرون الاختلاف، والحياة المغلقة التي ظلّت ترفض التزاوج مع الآخر من غير الطائفة، والحفاظ على روابط داخلية، شيئًا من الخصوصية.

يفتخر الدروز على مدار التاريخ بأصولهم العربية التي تمسكوا بها، والتي يقولون إنها استمرت نقيّة بعيدة عن الاختلاطات الإثنية، ويزدانون فخرًا بدورهم في محاربة الاستعمار الفرنسي، وقيادة الزعيم سلطان باشا الأطرش للثورة السورية، ورفضهم دولة الدروز التي أقامتها فرنسا لتقسيم سورية، ثم إسهامهم الحيوي في مرحلة الاستقلال وما بعدها، كجزء صميمي من الشعب السوري.

بشكل عام، ولأسباب شديدة التداخل، كان إقبال “المكوّنات المذهبية” على العمل السياسي كبيرًا، وبارزًا، ويتجاوز على الدوام قصة النسب والمحاصصات، لأن تلك التركيبة التي ترتبط بوطن كبير، ولديها توجهات قومية عامة كانت تجد في الأحزاب القومية واليسارية وما فوق محلية ومذهبية مخارج طبيعية للعزلة، وسبيلًا للمشاركة مع عموم فئات الشعب، وتحقيقًا للذات.

هكذا نجد حضور النخب من بين تلك المكونات قويًا في مختلف التشكيلات والأحزاب، منذ بداية إرهاصات النهضة، ثم في ذلك المشروع القومي التحرري الذي صاغته نخب من شتى الفئات والمذاهب، وبروز البعث كقوة مؤثرة، وعديد الشخصيات التي لعبت دورًا رياديًا كمنصور الأطرش وشبلي العيسمي المؤسسين لحزب البعث، واللذين شغلا، فترات طويلة، وبخاصة العيسمي، مواقع قيادية كأعضاء في القيادة القومية للبعث، ناهيك عن أسماء أخرى لا تقل أهمية، كحمود الشوفي وطارق أبو الحسن اللذين كانا من قيادة الجناح اليساري، ثم فصلهما وعدد آخر.. وتأسيس تنظيم يساري “حزب العمال الثوري” الذي اهتمّ كثيرًا بعمليات التثقيف والنخبوية.

برز في الجيش اللواء فهد الشاعر الذي عُيّن وزيرًا للدفاع، واللواء حمد عبيد الذي تولى منصب رئيس الأركان لفترة، إلى جانب عدد من الضباط.. كالرائد سليم حاطوم الذي أعدم أواخر العام 1967، بعد فشل محاولته الانقلابية وهروبه إلى الأردن ثم رجوعه أثناء حرب حزيران/ يونيو واعتقاله وتعذيبه، وإعدامه، وطلال أبو عسلي، وكثيرين شملتهم التصفيات عبر الصراعات الحزبية المتتالية، والتي تقزّم إثرها الدور البارز للدروز في البعث، خاصة في مرحلة حكم الطاغية حافظ الأسد.

أدّت الصراعات البعثية الداخلية إلى انقسامات كبيرة في البعث، تركت آثارها، ولا شكّ، على المناخ العام والحاضنة الشعبية “الدرزية”، وكان أهمها ما حدث في حركة 23 شباط/ فبراير 1966 حين انتصر ما يُعرف بالجناح اليساري، وسجنت القيادة التاريخية، ومنها شبلي العيسمي الذي عاش في العراق طويلًا، بعد إطلاق سراحه كأمين عام مساعد لحزب البعث – القيادة القومية، بينما آثر منصور الأطرش البقاء في البلد حتى وفاته، وقد كان من نتيجة ذلك الانقسام معارضة أعداد مهمة من البعثيين لتلك الحركة، وحدوث تصفيات مهمة في الجيش، وصلت إلى أوجها حين قيام ما يعرف بالمحاولة الانقلابية الفاشلة للرائد سليم حاطوم وعدد آخر من الضباط الدروز وسواهم (8 أيلول/ سبتمبر 1966) واستخدام الأسد بعد سيطرته المطلقة على الحكم أسماء درزية في الجيش، لم يكن لها أي فاعلية، كما هو الحال حزبيًا.

هذه الانقسامات تركت آثارها الواضحة على ثقل وفاعلية البعث، في جبل العرب ومختلف المناطق التي يتواجد فيها الدروز، وظهر ذلك جليًا في العدد المحدود الذي اتخذ موقفًا معارضًا للانقلاب داخل الحزب، والذين تحملوا الكثير من الأعباء وحملات الاعتقال، والحصار، وعلى رأسهم حمد قطان -أمين فرع الحزب عند الانقلاب- وعضو اللجنة المركزية الاحتياط في التنظيم السري الذي قاوم الانقلاب، وقد اعتقل قطان في حملة الاعتقالات الواسعة لذلك التنظيم (آذار/ مارس 1976) أي قبيل الدخول الرسمي للنظام في لبنان باتفاق مع أميركا و”إسرائيل” لضرب تحالف الحركة الوطنية اللبنانية مع الثورة الفلسطينية، ووضع اليد على معظم لبنان.

كان لاغتيال القائد الوطني/ القومي الزعيم كمال جنبلاط أثره في عموم الطائفة الدرزية، باتجاه معارض للنظام، ووجود بيئة صالحة للعمل المعارض، شكّلت التحدي الكبير للأحزاب السياسية المعارضة التي لم تستطع توظيف هذا الوضع المناسب لبناء تنظيمات مؤثرة، لأسباب موضوعية وذاتية متراكبة، ومنها مستوى القمع الشمولي وسطوة أجهزة الأمن وتغلغلها الواسع داخل المجتمع، ودور المرجعيات الدينية الدرزية التي استجابت -في معظمها- بوقت مبكر لخطط النظام في عقد تحالفات بينهما تعزز المصالح المشتركة، وإطلاق مشاعر الخوف من الآخر الأكثري، وخصوصًا أن الصراع الدموي بين النظام و”الحركة الدينية” (الذي كانت مدينة حماة مركزه) عزز توظيف ذلك الخوف وتعميمه، وربطه بتاريخ سابق يعود لمرحلة حكم أديب الشيشكلي ابن حماة، وما عرفته تلك الفترة من استهداف الدروز، وتزكية مشاعر العداء، والتخويف كي ينصّب النظام نفسه “حاميًا للأقليات” من الأكثرية.

مع ذلك، فحركة المعارضة للنظام لم تتوقف في مناطق الدروز، وبقي عديد البعثيين “القوميين”، وفي “البعث الديمقراطي” و”حزب العمال الثوري” الذي شارك في التوقيع على قيام “التجمع الوطني الديمقراطي” أواخر عام 1970، والحزب الشيوعي-المكتب السياسي (حزب الشعب حاليًا)، وحزب العمل الشيوعي، والاتحاد الاشتراكي العربي، وتشكيلات أخرى ومستقلين من النخب الثقافية يمارسون معارضتهم بطرق متعددة، ويسهمون في الحراك الديمقراطي كما كان الحال مع “ربيع دمشق” الذي أسهم فيه عدد ملموس من المعارضين والمثقفين، ثم في “إعلان دمشق”، وكان من أبرز أعضائه جبر الشوفي عضو الأمانة العامة، الذي اعتقل سنوات مع بقية رفاقه في الأمانة العامة للإعلان.

لكن تلك الحركة، كبقية تشكيلات المعارضة، كانت متفاوتة التواجد والحضور في السويداء ومناطق الدروز، وفي عموم سورية، ولم تستطع القيام بفعل مؤثر، وقد تعرّضت جميعها لهزّات وتراجعات، جعلتها هامشية على العموم أمام نظام أمني مسيطر، وهو ما شكّل عاملًا مهمًا في محدودية التأثير والفعل، حين قيام الثورة السورية وبعدها.

توقع الكثير من السوريين أن تلتحق السويداء، مدينة ومناطقًا، إلى جانب بقية أماكن تواجد الدروز بالثورة السورية مبكرًا، بخاصة أن المدينة الجارة -درعا- احتضنت الثورة، ومثّلت قلعتها، وقاعدة توسعها وانتشارها، وقد استقبلت السويداء عشرات آلاف النازحين والفارين من ويلات القتل والدمار، أبناء حوران… لكن تلك التوقعات لم تحدث كما كان منتظرًا ومأمولًا، وظلت المشاركة محدودة ومتفرقة، ولا تمثل ثقلًا يتناسب وتاريخ الدروز في الثورات والانتفاضات السورية، وتوقهم للحرية، وإقامة النظام التعددي الذي يساوي بين الجميع على أساس المواطنة، الأمر الذي فتح المجال لعديد التفسيرات، ودعا جملة من الدروز المناضلين، والمهتمين بالشأن السوري والثورة، لتحليل الأسباب، خصوصًا أن المنطقة عرفت، شأن أغلبية المناطق السورية، تهميشًا مستدامًا من قبل النظام، وغيابًا لبروز قيادات فاعلة منها في الحكم وموقع القرار (عسكريًا ومدنيًا)، كما هو شأنها السابق، قبل انقلاب الأسد وما قام به من تغييرات كبيرة، لتحويل سورية إلى ملكية خاصة، فـ “جملكية”.. بفرض التوريث.

يقول عدد من الكتاب الذين تناولوا هذه الحالة إن عدة أسباب متداخلة تقف خلفها، وهي:

1- في عام 2000 في إثر مقتل أحد أبناء السويداء من قِبل بدوي؛ حدثت انتفاضة، قمعها النظام بكل عنف، وذهب ضحيتها أكثر من 15 ومئات المعتقلين، ثم ضرب طوقًا أمنيًا على المدينة استمر طويلًا وتطور إلى ما يشبه اختراق فعاليات المدينة، عبر شبكة من المخبرين والمتعاملين مع النظام، وبما سمح له إخضاعها وبثّ سياسة التخويف من الآخر -السني- وأنه هو الحامي الذي يصون حياة الأهالي والممتلكات.

2- إن تهميش المدينة ومناطق الدروز، عبر العقود؛ دفع مئات آلاف الشباب للهجرة الداخلية والخارجية، فتفرّقوا في شتى الأنحاء. في المدن السورية، ولا سيّما دمشق، جرمانا التي تسكنها أغلبية درزية، أو في بقية المدن، وبلدان الخليج والمهاجر؛ ما أفقد المدينة جذوة الحراك، باعتبار أن الشباب هم الفتيل.

3- نجاح النظام في عقد تحالفات قوية مع “مشيخة العقل”، لتبادل المنافع المشتركة، وقيام هؤلاء بالدعاية للنظام، والتهدئة، و”تحييد” الدروز عن الحراك السياسي، في الوقت الذي كانت أجهزة النظام تحارب وتشوه دور الزعيم وليد جنبلاط، وتدعم منافسه طلال أرسلان، بينما تحرك تابعها وئام وهاب للقيام بعمليات التجنيد مختلفة الأشكال، وتشكيل حزب يمثل امتدادًا لحزبه المنضوي في شبكات النظام ومافياته.

4- يمكن إضافة عامل بنيوي آخر يرجع إلى واقع المعارضة التقليدية الضعيف الذي لم يتمكن من قيادة الثورة، أو القيام بدور مهم فيها، وفي عمليات التحشيد الشعبي، والردّ على سياسات النظام وأزلامه، فتركز الحراك بين صفوف عدد من الشباب والنخب، وبشكل متقطع، ومبعثر، وبعضه خارجي، بدءًا من الجولان المحتل إلى أماكن تواجد الجاليات الدرزية في البلدان العربية والخارج.

5- تغذية النزعات الجهوية العدائية ضد أهل حوران، والبدو بشكل عام، والأكثرية السنية، ثم الركوب على قصة الإرهاب، وبعض المنتمين إليه الذين تواجدوا في بعض المناطق الدرزية في الجبل، ومارسوا بعض العمليات الإرهابية ضد الدروز، في بعض القرى الدرزية المنتشرة في محافظة إدلب، وأثر تصريحات “الجولاني” لقناة (الجزيرة) عن موقف “النصرة” من الدروز ومحاولات “إرجاعهم إلى الدين الحنيف، والتوبة”.

مع ذلك، شهدت السويداء وعدد من المناطق الدرزية حراكًا مهمًا، في بدايات الثورة، كان أبرزها وقفة المحامين في 28 آذار/ مارس 2011 وإصدار بيان تضامن مع المتظاهرين، والدعوة إلى رفع الحصار الأمني عن المدينة الجارة درعا، وإجراء تحقيق جاد في قتل المدنيين. تلا ذلك قيام تنسيقية السويداء، ثم عدد آخر من التنسيقيات التي قادت مجموعة من الأنشطة والتظاهرات والاعتصامات، ومن ذلك اعتصام قرب الملعب في 25 أيار/ مايو، واجهته قوات الأمن بكل شراسة، وعرفت شهبا تظاهرات حاشدة في 7 شباط/ فبراير قوبلت بالقمع أيضًا، وأعلن في 18 تموز/ يوليو 2011 عن تشكيل تنسيقية السويداء الموحدة، وفي آخر عام 2011 أحرق المتظاهرون في دوار (تعلبة) تمثال حافظ الأسد، ومع بداية عام 2012 تمّ نزع صور حافظ وبشار الأسد من على أقواس النصر. وبداية الشهر الأول من عام 2012 عرفت شهبا عدة تظاهرات في مناطق مختلفة، وكذلك في مردك، والقريا ورفع شعار “سقط النظام”، وأحرق تمثال حافظ أسد للمرة الثانية في الأول من كانون الأول/ ديسمبر 2012، وفي 7 كانون الثاني/ يناير، شهدت شهبا تظاهرات حاشدة رفعت فيها علم الثورة، ووجهت السيدة منتهى الأطرش نداء لجميع الأهالي بالخروج في شتى أنحاء السويداء، لتخفيف الطوق الأمني على شهبا، ومناصرة ثورة الشعب لأجل الحرية.

على صعيد الانشقاقات العسكرية:

كان الملازم أول خلدون زين الدين أول الضباط الدروز الذين أعلنوا انشقاقهم، والذي أنشأ كتيبة (سلطان باشا الأطرش) التي قامت بجهد جيد في إطار الجيش الحر، واستشهد في أحد المواجهات، ولحق ذلك تشكيل كتيبة (كمال جنبلاط) في ريف إدلب، بقيادة ثمامة معروف من مدينة السويداء، ثم كان انشقاق العقيد حافظ الفرج الذي قام بإعادة تشكيل المجلس العسكري، ثم انشق النقيب شفيق عامر، والملازم الأول مهند العيسمي، والملازم الأول فضل زين الدين، والملازم الأول مهران مهنا، وكان أكبر تلك الانشقاقات رتبة انشقاق اللواء الطيار فرج المقت.

تشكلت عبر تلك الانشقاقات عدة كتائب عسكرية، كتجمع (أحرار السهل والجبل) بقيادة الملازم الأول خلدون زين الدين، والذي قام بعمليات مهمة في درعا، وكتيبة (الشهيد تامر العوام) في المنطقة الجنوبية، وتشكيل (لواء مازن) الصاروخي في حماة، بقيادة مهند العيسمي، وكتيبة (فدائيو بني معروف) في منطقة الغوطة الشرقية.

إلا أن مجموعة عوامل ساهمت في بعثرة ذلك الحراك المدني والعسكري، منها ما يتعلق بتعقيدات الثورة وطغيان العَسكرة فيها، ثم الإسلاموية التي أزاحت معظم التشكيلات المخالفة لها، أو بعض أحداث الخطف التي تمّت لأبناء السويداء من قبل تنظيمات متشددة، وبعض التصفيات والاعتقالات وحملات التعذيب لدروز يقطنون في القرى التابعة لمحافظة إدلب، وتراجع منسوب الانشقاقات في عموم جيش النظام، منذ بدايات العام 2012، ونجاح النظام بالتعاون مع المشيخة الدينية في تكريس مقولات “النأي بالنفس” و”الحياد”، أو تفضيل النظام على احتمالات بديل إسلامي متشدد.. ضمن خط تراجعي للتفاؤل بسقوط وانهيار النظام، بعد تدخل الميليشيات الطائفية الشيعية، والحرس الثوري الإيراني، فالتدخل والاحتلال الروسي، وآثار ذلك على الواقع الميداني والحلول السياسية، وعلى الحواضن الشعبية للثورة.

مع ذلك، ما يزال مئات المناضلين من الدروز يشاركون، بكل طاقاتهم، في مواقع حيوية لدعم الثورة، وتقديم جهدهم المتنوع في مجالات مختلفة.. وما يزال شبلي العيسمي -الأمين العام المساعد لحزب البعث “القومي”- معتقلًا منذ اختطافه من لبنان، أو مجهول المصير، وقد تجاوز الخامسة والثمانين من العمر.


عقاب يحيى


المصدر
جيرون