إذ يَسهُل الهوان



ما خرج اتحاد كتّاب عربيّ، من وجهة نظر النظام الحاكم في بلده، عن كونه مؤسسة من جملة المؤسسات، كمؤسسة الدواجن والأعلاف -مثلًا- أو غيرها من الهياكل الحكوميّة المُلحَقة المأمورة.

و”الاتحاد العام للأدباء والكتَّاب العرب”، الذي بارك، بانعقاده في دمشق، جريمةَ هدر دماء أبناء سورية على أيدي المغتصبين للسلطة فيها، وجرائم تشريدهم وتهجيرهم القسري، وآلام وعذابات آلاف السجناء والمعتقلين والمفقودين منهم، وتدمير منازلهم وأماكن أعمالهم؛ اتحاد كهذا ليس سوى حاصل جمع بؤس وهشاشة الاتحادات الخاصة بكلّ بلد عربيّ، وواقع تبعيّتها وانصياعها لسلطات البلد، أو تعاميها -في أحسن الأحوال- عن الكوارث والجرائم والمفاسد لتلك السلطات. فلا غرابة -وحاله كذلك- أن يختار دمشق لعقد اجتماعه، بعد ست سنوات من المقتلة بحقّ أبنائها، ولا عتب على إدارته الأشدّ عجزًا من أن تقدّم سوى الولاء والمباركة للطغاة.

العار، كلّ العار، هو لمن حضر من كتَّاب الدول العربيّة، طوعًا واختيارًا. العار، كلّ العار، لمَنْ حضر، غاضًّا بصره وبصيرته عن دماء السوريين المهدورة على يد طغاة آل الأسد، وعن آلاف معتقلي الرأي وناشدي الكرامة والحريّة والعدالة، وعن ملايين المُهجَّرين المُبعَدين المُشرَّدين في أصقاع الأرض.

العار لمن حضر غاضًّا بصره وبصيرته وضميره عمّا كَتب وأَصدر، وعمّا جهر بمعارضته ومقاومته لمختلف أشكال وألوان الاستبداد والطغيان، والمستأثرين بالسلطة، الحاكمين بأمرهم، والمُصادرين للرأي الآخر، المُعتقِلين لأصحابه، حتى لو كان أولئك الطغاة في أقاصي الأرض، أو في زمن تاريخيّ انقضى.

العار لمن كان منهم سجينَ رأي -ذات يوم- وسجينَ مطالبته بالحرية والكرامة والعدالة، ثمّ داس بأقدامه على ماضيه وآلامه والظلم الذي لحق به، وعلى ما كتبه في قصصه وقصائده ونصوصه المختلفة، داس بأقدامه نفسها التي ساقته لمباركة الجلاد المستبد في دمشق.

كم من الخسَّة والوضاعة والصَغار وانمحاء الكرامة والذلة والهوان يحتاج المرء، ليسهل الهوان عليه، ولتموت ذاكرته جرَّاء ظلم الماضي الذي عانى منه، وليفقد الشعور والإحساس بمآسي البشر؟ لو كان المستبدّ الغاصب في دمشق قد أحرق ملايين الأشجار المثمرة، أو لو كان هدر ملايين الأطنان من القمح، أو لو كان أباد الملايين من رؤوس الأغنام، لكان العار، كلّ العار، على مَنْ لا يُجرّمه ويلعنه في قلبه ولسانه وقلمه؛ فكيف يكون الموقف والمسلك إزاء قيامه بإبادة أهل البلد، أو حتى إزاء -إذا شاء المؤتمرون- عجزه وعجز نظامه عن حماية الناس من “العصابات المسلَّحة” وتأمين سلامتهم!؟

لم يخنِ الكتَّاب العرب المؤتمرون في دمشق ناسَ البلد المُعذَّبين المُذلّين المهانين من المستبد الحاكم، ولا هم خانوا آمال الناس بهم من البائسين المضطهَدين، ولا قدَّموا عونًا لبلد ذبيح، ولا هم ساهموا في إيقاف مذبحة جارية على حياة ناسه منذ سنوات. لا شيء من هذا فعلوه بحضورهم إلى دمشق وعقد مؤتمرهم، ولا شيء من هذا بإمكانهم، ولا بإمكان اتحاداتهم -مجتمعة ومنفردة- فعله. كلُّ ما في الأمر أن الكتَّاب المتهافتين على الحضور داسوا على قيمهم المُفترضة، وداسوا على كتاباتهم، وداسوا على أفكارهم التي ظهَّروها في كتاباتهم، وعلى انتمائهم وانتصارهم للمقهورين والمظلومين، وفق ما أعلنوا غير مرّة.

الضمائر تشهد أن الموقف من قتل أهل وسكَّان بلد ما -أيّ بلد في المعمورة كلّها- واقتلاعهم منه، وتشريدهم، وتدمير مساكنهم، واعتقالهم، وإماتتهم تحت التعذيب -سواء على يد السلطات أو لعجزها عن حمايتهم- لا يقبل تعدّد آراء ووجهات نظر. أعني الضمائر غير الميتة أو المباعة.


إبراهيم صموئيل


المصدر
جيرون