العبودية في إهابها الجديد



نظر ماركس إلى العبودية، بوصفها مرحلة من مراحل تطور التاريخ البشري، وبوصفها تشكيلة اجتماعية – اقتصادية، تقوم على وجود طبقة أسياد مالكة لكائنات بشرية، بوصفهم أدوات إنتاج للخيرات المادية، وتكون السلطة حينذاك سلطة الأسياد المالكة للعبيد وللأرض، فالدولة العبودية هي دولة الأسياد الأحرار.

غير أن التاريخ، وقد تجاوز مرحلة العبودية كتشكيلة اجتماعية – اقتصادية، أبقى بهذا الشكل أو ذاك على روح العبودية في أي مجتمع طبقي، فهناك عبودية الأجر، صحيح أن الفلاح في المجتمع الإقطاعي يعمل بوصفه حرًا، ولكنه ينطوي على روح العبودية، لأن حياته مرتبطة بمقدار الأجر الذي يمنحه إياه الإقطاعي، وقس على ذلك العامل والموظف.. إلخ.

مع الأيام؛ صارت العبودية نمطًا من الوعي بالذات، ليس أهم معالمه الخضوع فحسب، وإنما الدهشة من الأحرار وكرههم، وهذا ما يميز الدكتاتوريات العسكرتارية المعاصرة التي استولت على السلطة، منذ السبعينيات حتى انفجار الربيع العربي.

يمكن تعريف الدكتاتورية، أو السلطة المستبدة عمومًا، وبخاصة صورها العربية: بأنها امتلاك الحاكم الأوحد القوة وحرية استخدامها؛ للسيطرة عبر أدوات من العبيد يمنحها الحاكم بعضًا في فضلات القوة، للدفاع عن استمرار سيادته المطلقة؛ فيؤسس ممن منحهم فضلات قوة طبقةً من العبيد التي تمتلك من فضل القوة ما يوهمها بأنها تنطوي على روح السيادة والحرية، أو هي مشاركة للسيد سيادته، فيما حاشية المستبد ليست سوى طبقة من العبيد الخلص، ويمكن للحاكم الأوحد أن يسلب فضلات القوة الممنوحة منه ممن يشاء، عند الضرورة؛ فيتحول العبد المالك إلى فضلات قوة من سيده عبدًا خالصًا، ويفقد الشعور الذي خلقته ليديه فضلات القوة.

هذه الكائنات –العبيد- في علاقتها بسيدها لا تسأل، لا تناقش، لا تُحاور، لا تقول لا، فمهمتها أن تكون صاغرة ومنفذة، من أعلى رتبة إلى أصغر درجة، وهكذا تنشأ في الدولة الاستبدادية العبودية ذاتًا مشوهة، فهي مخيفة بفضل فضلات القوة، وخائفة على فقدان فضلات القوة، ولا تملك أي قدرة على تقرير مصيرها، لكن هناك الذات الواعية لعبوديتها، ولهذا فهي تشعر بفقدان حريتها، وتكره سيدها وتحتقره، لكن عبوديتها توفر لها وجودًا ماديًا زائفًا، فتعيش ازدواجية العبودية واحتقار ذاتها المعبرة عنه باحتقار سيدها، وهناك الذات التي لم تعد تشعر بعبوديتها وتعلن خضوعها المطلق لسيدها، وليس لشعور الحرية في حياتها أي حضور.

هذه الذات الخاضعة والسعيدة بخضوعها لسيدها، بتحولها إلى آلة صماء عند سيدها دون أي شعور بإنسانيتها، يسهل عليها أن تتحول من مشروع قاتلة إلى قاتلة بأمر واضح بالقتل، أو بإشارة توحي بممارسة القتل من قبل مالكها. إن عنفها مزيج من ثلاثة عناصر مترابطة: أمر سيّدها غير القابل لأي تردد في تنفيذه من قبلها، خوفها من الآخر الذي قد يطيح بشروط عبوديتها، معرفتها معرفة اليقين باحتقار نقيضها لها.

وتأسيسًا على هذا المزيج الذي يكوّن ذات العبد؛ فإن العنف لديه هو عنف ثأري ممتزج بالخوف، فيظهر العنف في أسوء حالاته اللامعقولة، وتجربة العبودية الحاكمة في سورية المثال الأبرز على قولنا.

فمن الطبيعي أن يكون العبد في تناقض مع الحر، لكن الحرّ لا يجعل من العبد ندًا له في الصراع، وإلا؛ ساواه بذاته الحرة، بل يتوجه إلى مالك العبيد، وقد يدوس بعضهم في طريقه إليه، إن هم سدّوا عليه الطريق.

ليس هدف الحر قتل العبيد، بل تحريرهم من العبودية، لكن بعض العبيد السعداء بعبوديتهم، والسعداء في خدمة مالكهم، والذين حصلوا على قليل من فضلات قدرة منه، أدمنوا على حقن شرايينهم بها، لا يتخيلون أنفسهم أحرارًا، ويتحولون إلى مجرمين بحق الحياة والحرية ذاتها التي لها آلاف الأرواح، الأرواح التي يكثف الفيلسوف حقيقتها بقوله: أنا حر؛ إذن أنا أكون.


أحمد برقاوي


المصدر
جيرون