ثنائية الـ “الأنا” والـ “الآخر” وتشظي الهوية



تاة الفلسطينية: عهد التميمي، المعتقلة لدى الاحتلال الإسرائيلي، إثارةَ مسألة الاستقطاب في المجتمع العربي، ومفهوم “الأنا” و”الآخر”، الذي كرَّسته المواقف المتباينة التي ظهرت بعد انطلاق ثورات الربيع العربي. وكان لافتًا -طوال السنوات السبع الماضية- أن التنازع بين الـ “مع” والـ “ضد”، والـ “نحن” والـ “هم”، وصل إلى داخل نفس كلِّ الأشخاص الذين تفاعلوا مع الحوادث التي رافقت تلك الثورات، أو انغمسوا فيها وشاركوا في فعالياتها وحوادثها، أو حتى من كانوا ضحايا لها. ويُعد هذا الأمر طبيعيًا، لأنه رافق حركات التحرر، أو الثورات عبر التاريخ، غير أنه لا يكون طبيعيًا، أو ربما يعد مؤشِّرًا لحالة التجذر التي أصبحت عليها هذه الثنائية، وربما وصولها إلى الحالة المرضية، مع عودة ظهورها، بقوةٍ، مع ظهور قضية التميمي.

اعتدنا في عالمنا العربي، وخصوصًا خلال الأزمات، عدم تكُّون “الأنا” لدى كثيرين منا، وتضخُّمها بنفي الآخر، ثم دخولها في طورٍ مرضيٍّ حين يزداد التمركز حول الذات، واعتبار الآخر وهمًا لا وجود له. ومن دون علمٍ من صاحبها، المضخِّم لها، فإنه ينفي نفسه، أي هويته، حين ينفي الآخر، لأنه لا وجود، أو معنى، لـ “الأنا” من دون الآخر المقابل، المعارض أو المضاد، الذي بوجوده، أو حتى إيجاده، يتكرس وجود “الأنا”. وللأسف، فإن خضة السنوات السبع الماضية، من عمر ثورات الربيع العربي، لم تعمل تراجعًا لتلك “الأنا”، على الرغم من أن كثيرين ممن شاركوا في الثورات ثاروا على سلطة الرأي الواحد، لِوَعيهم أن “أناها”، تنعكس اضمحلالًا لوجودهم.

بناء على ذلك، أتى اتهام أشخاص كثيرين في الدول العربية، هذه الفتاة، مثلما جرى اتهام فنانين وكتاب وشخصيات اجتماعية قبلها، بأبشع التهم، الجاهزة، وإسباغ كل الصفات السيئة عليها، لمجرد (افتراض) انتمائها إلى فصيل سياسي معين، يخالف عقائدهم، أو عقيدة الفصيل الذي ينتمون إليه. على الرغم من أن حالتها هي حالة جميع أبناء الشعب الفلسطيني اليومية، المواجهين للاحتلال، إلا أن الظروف شاءت أن تكون هي، وليس غيرها، في محرق العدسة، بسبب نوعٍ من الكاريزما التي قُيِّضَ لها أن تمتلكها، من دون أن تكون قد توسَّلَتها، بالضرورة. وفي حالتها، وعبر ما كتب عنها في مواقع التواصل الاجتماعي، أو عبر التعليقات على المقالات التي تناولت مقاومتها جنود الاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم اعتقالهم إياها وإيداعها السجن على ذمة التحقيق، يبدو التشظي النفسي الذي حلَّ بكثيرين ممن تعاطوا مع قضيتها، في أنصع صوره.

ومع ذلك، فمن المستغرب أن يشتمها فلانٌ، لمجرد أنها تنتمي إلى فصيل سياسي لا ينتمي هو إليه. ومن العجب العجاب، أن يقول عنها أحدهم -وهي في محنتها تلك- إنها كذا وكذا، مفترضًا أنها ملحدة تنتمي إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ويردُّ عليه آخر: “كلا إن كلامك غير صحيح، إنها “إخونجية”، ألم يلتقيها أردوغان عندما كان رئيسًا للحكومة التركية؟”. ثم يرد آخر: “كيف تكون “إخونجية” وهي مطلقة الشعر؟”. كما أن هنالك من المعارضين للنظام السوري من شتمها لأنها “منحبكجية”، حيث إنه (رَصد) والدها، مرّةً، وهو يُمالئ النظام السوري، إلا أنه لم يزِدنا مما اكتشف. وفي المقلب الآخر، لم يتوانَ موالون عن شتمها -أيضًا- مفترضين أنها من عائلة “ذات توجُّهٍ إسلامي”.

ومما يدعو للأسف، أن يدبِّجَ أحد الكتاب السوريين مقالةً، يفيد فيها أن قضية عهد لم تُعطَ هذا الاهتمام العربي والعالمي، إلا من أجل التغطية على قضايا السوريين، وخصوصًا قضية المرأة السورية، ضحية هذه الحرب، متناسيًا أن للآخرين قضيتهم أيضًا، وهم أعادوها إلى الواجهة لأنهم يريدون حلها. أما إيلاء قضيتهم الاهتمام، ومحاولتهم جعل الآخرين يهتمون بها فلميزةٍ فيهم، ربما افتقدها الآخرون وافتقروا للأداة اللازمة لذلك. مع العلم، أن تقنيات الإعلام البديل الحديثة، تتيح لأي كان أن يجعل من قضيته تتفاعل، كما قضية عهد، إن كانت لديه الخطط والإرادة لذلك.

طبعًا، كالَ الجميع الشتائم، ووجهوا لها كل التُّهم، ثم هجعوا إلى بيوتهم وأَسِرَّتهم فرحين، متناسين أنها مجرَّد طفلةٍ دافعت عن منزلها وحياتها، بيديها ولعناتها، ووقفت في وجه جنودٍ مُدجَّجين بأحدث أنواع الأسلحة، من دون خوفٍ، ومن دون توسُّل البطولة، كما تفعل النملة في دفاعها عن وكرها، مدفوعة بغريزة البقاء. إنهم حين يفعلون ذلك، لا يثبتون أن التشظي النفسي قد فعل فعله في حالهم، فحسب، بل إن الهوية لديهم باتت ضائعة، حين وضعت (عهد) إصبعها في عين عدوها، عدوِّهم، الإسرائيلي الذي لم يغير جلده البتة، بينما كنا نحن نتناهش أجساد بعضنا بعضًا. ولم يسأل أحد من الشاتمين نفسه، إن كانت عهدُ سعيدةً في سجنها، أو أنها حين دافعت عن مسكنها، كانت تتمنى أن يعتقلها جنود الاحتلال، بدلًا من تمنيها أن تبقى خلف طاولتها، آمنةً، تُراجع دروسها للتقدم إلى الامتحان، كما تفعل كل الفتيات اللواتي في مثل سنها، في كل أنحاء العالم.

لقد استبدّت هذه “الأنا” بأشخاصٍ، حين سيطرت عليهم قضية (عهد)، فبدلًا من التوقف عن شتمها بعد إشباع ذاتهم، في إثر اكتشافهم مخالفتها عقائدهم، وانتفائها بسبب تلك المخالفة، استمروا في الشتم، وتَطوَّر الأمر بهم إلى شتم المتعاطفين معها، أو حتى من يتناول حالتها في مقالةٍ أو وقفةٍ تضامنيةٍ. ومن الضروري -والحال هذه- أن يعي هؤلاء الأشخاص أن استعداء (عهد)، أو من هم على شاكلتها، هو نوع في الإيغال في الوهم، الذي لا شفاء منه سوى بإدراك أن عدو (عهد)، العدو الإسرائيلي، المحتل لأرضها وأرضهم، هو العدو الحقيقي الذي هم بحاجة إلى تكريسه، لكي تتكرس “أناهم”، إن أرادوا تكريسها التكريس الحقيقي.


مالك ونوس


المصدر
جيرون