الأكراد وجغرافيا الخذلان



فيما يعيش الشرق الأوسط، كبيره وصغيره، أزمات وحروب متوالدة ومحبطة إنسانيًا؛ تتكرس هذه التسمية الاستشراقية إلى عنوان عريض لمساحة شاسعة من البؤس بأشكاله، اقتصاديًا أو سياسيًا أو ثقافيًا.. البؤس الذي تمهد له وتغذيه عوامل كثيرة خارجية وذاتية، وليس من حال تدوم مآسيها، كالحالة التي ينصهر فيها البؤس باليأس؛ حيث ينتج كل منهما ما يحث الآخر ويكرسه ويرسخه، ولعل أهم عامل تم استخدامه هو العامل الثقافي، العامل الذي قال عنه بريان بيدهام الصحافي الأميركي إنه العامل الذي يدفع البشرُ في سبيله كلَّ شيء حتى وجودَهم، وهذا العامل الذي يجعل النصل أكثر حدة، والرصاصة أكثر جرأة، يتغذى من مصادر متعددة قومية ودينية وقبلية وطائفية.. ويتجلى في معظم القضايا المعطلة للتنمية، والمكرسة للبؤس منذ قرون، وبخاصة العامل العقدي. أما العامل القومي، مع وجوده التاريخي، وكل الصراعات التي حفت به وقامت عليه، فلم يتضح أثره إلا بُعيد نشوء الدول القومية في أوروبا، هذه الرؤى التي تسربت إلى الشرق مع مطالع الغزو الاستعماري، وأصبحت عاملًا رئيسًا ونشطًا لأكثر من قرن ونصف. ولعل الخلاف على تقييم الحالة الكردية راهنًا أحد أبرز وجوهه الراهنة.

لا يختلف الكردي عن غيره من شعوب المنطقة، في بؤسه وشقائه، سوى أن جرعته مضاعفة، بسبب وقوع قوميته في جغرافية دولٍ تتقاسم وجوده وتتبنى أيديولوجيات عنصرية، أيديولوجيات قومية هي ليست غاية في حد ذاتها، إنما كإطار لممارسة سلطة متعسفة، تحت شعارات ذات بعد تاريخي أو ثقافي. إنه الكردي الذي خذلته الجغرافيات الاستعمارية، عندما رسمت أقدارًا مأسوية للجميع بحرمان بعضهم، وتفخيخ ما تبقى.. الكردي الذي إن صمَت؛ ناله المزيد من الضيم، وإن تحرك وصدح؛ قُمع وخُوّن، وأذكر جملة قالها أحدهم، بحق صديق مشترك: إنه عنصري، يريد أن يتحدث لغة غير لغتي!

لم يُفلح الأكراد -تاريخيًا- في بناء كيانٍ مستقل بهم، لأسباب كثيرة، منها أسباب ذاتية؛ إذ إن حمية الكردي الزائدة ورّطته في مسالك قاتلة، قراءتُه لتاريخه كانت سطحية وناقصة دومًا، فلم يعتبر منه، تقديره لحاضره كان مليئًا بالمغالطات، فدفع الثمن الأكبر، واستشرافه للمستقبل اختلط مع التهويمات، فلم ينجح في وضع أسسٍ لتغيير أحواله أو الاستقلال بذاته.. حتى في تقديره للصوت العاقل أخطأ الكردي كثيرًا، إذ ظن أنه الصوت العالي والحماسي. لا يُنكر مُنصفٌ البأس الشديد الذي تعرض له الأكراد في الأنحاء جميعها، لكن هل كانت أقدار بقية الشعوب في المنطقة أفضل؟!

الغالبية العظمى من الأكراد بسطاء، مطالبهم في الحياة يسيرة ونبيلة، يبحثون عن فسحة للعيش بعيدًا عن ظلم الجيران وذوي القربى، يشكرون من يهتم لأمرهم، ويقدّرون من تورّع عن ظلمهم، ويغفرون لمن يكفّ عن إيذائهم، هم في عمومهم هكذا، وإن تنطعت قلة منهم، بدلًا من أن تحفز هممهم للنهوض من جهل حالهم ووعثاء مآلهم، وظلم عمّالهم، تدفع بهم إلى أحضان أعدائهم، وتستثير فيهم العواطف الرخيصة والحميات القاتلة.. اختلطت عليهم الأمور أو هم يخلطونها عمدًا، أو تضطرهم إليها مظالم جيرانهم، والنتيجة تكون وبالًا على الأكراد أنفسهم وعلى بقية الشعوب. حتى المثقف اصطفافي بشكل مريب، إذ يميل إلى جهة، يكرس جهده في تسويغ أفعالها وأقوالها، وإذا كان هذا حال المثقف؛ فكيف يحققون ما يحق لهم.

الأكراد أمة، وشعب عريق، وطاقة جبارة، ويستحقون الاحترام والنهوض والاستقلال بشأنهم، إلا أن استحقاقاتهم لن تأتي على يدٍ سياسي أجير، أو مثقف مليء بالحماقة، لا شك أن قامات فكرية واعية ومدركة موجودة، ولها تقديرها العالي واحترامها الكبير، لكن صوت العقل والخبرة والوعي صوت هادئ ورزين، ويضيع في زحام الأصوات الحمقاء والفوضى التي تثيرها.

ليس العيب في طموح الكردي، وهو طموح مشروع ومنصف، إنما في الذين يعبرون عنه برعونة، وأكثرهم ممن تخلى عن معايشة حال الأكراد، ويثير الغبار من بعيد دون أن ينال منه هذا الغبار أذى.

الكردي تائه بين من يدعي تمثيله، وبين من يتربص به، يدفع الثمن الغالي مرة تلو المرة، دون أن يحظى بما يحق له، بتدبير لئيم من غيره؟ نعم! لكن أيضًا بتدمير من نخبته المتصدرة عنوة. يستحثه هؤلاء الحمقى ليقاتل حيث لا يستفيد، وأن يستهلك طاقته فيما لا يفيد. لذلك يضمحل الأمل، ويبدو الغد أسوأ من اليوم.

أهم ما يجب أن ينتبه إليه الأكراد، هو التيقظ لمن يأخذ برايتهم، وعدم التعويل على أحزابٍ، لها برامجها السياسية وليست التنموية، فلطالما دخلوا معارك ما كان ينبغي أن يدخلوا فيها، ولطالما نكصوا حيث يجب أن يثبوا ويتقدموا، وكل ذلك في سبيل أحلام كبيرة، تفتقد واقعيتها السياسية، وتحت شعارات كبيرة لا تعبر عن حقيقة نيّات من يعلنها.

لكن هل المهمة مناطة بالأكراد وحدهم، إن المسألة في شرق بائس ومدمر وأسير تتعلق بجميع الشعوب، على اختلاف مللهم وأروماتهم وعللهم، كيف يدعي طلب الحرية من يحرم غيره منها؟! الدخول في تفاصيل تاريخية لغمط الناس حقوقهم والتضييق عليهم، والطلب بتهجيرهم أو تدجينهم، هو كارثة لن يخرج منها طرف سالمًا، فالكل خاسرون ومأزومون، والغد المأمول سيبقى بعيدًا عصي المنال. لم تعد الرؤى القومية تجدي اليوم، وقد أخفقت إبان زهوتها، ويميل البشر إلى تلطيف هذه التباينات إلى طابع ثقافي، إدراكًا لمثالبها، وخبرة بما نتج عنها طوال عهد مديد، لا يحق لمن يعتز بثقافته أن يحرم سواه من ثقافته، ولا لمن يبتغي استقلال ملته أو نحلته، أن ينكر على غيره رغبة مماثلة تحق له ويطلبها.

ثمة حالة عامة في هذا الشرق الدامي: إن ملله ونحله تُقاد من نخب فاسدة ومتسلطة، فيحتشدون وراءها مأخوذين ببريق شعاراتها، بينما تقودهم هذه النخب إلى مصاير أكثر بؤسًا، ومستقبل أكثر تأزيمًا ودموية. هذه حال كل الملل والنحل، وإن تفاوتت فيما بينها، وإذا ظهرت نخبة أقل فسادًا أو استبدادًا؛ تداعت الدول الكبرى ودول الهيمنة المتغطرسة إلى إعثارها ومراكمة المطبات أمامها، وإثارة الإحن التاريخية التي لا رصيد لها في واقع الناس، لتخفق هذه النخبة، ويبقى الشرق بعمومه ذليلًا عاجزًا خانعًا.

في عالمٍ دساتيره تزعم الحرص على ديمومة أي ملة أو ثقافة حتى لو كان المنتسبون إليها معدودين، ليس من حماقةٍ توازي حماقة من يتوهم أنه قادر على إزالة أمة، أو محو شعب، إلا حماقة من يظن أن التنمية والنهضة ممكنة، في محيط من العداء وإثارة الخصومات.


عبد الواحد علواني


المصدر
جيرون