الصيد في الماء الصافي



كنتُ ذاهبًا إلى السوق، لأشتري سمكًا وبعض الخُضار، وشاء الحظ أن أصادف زميلًا قديمًا من زملاء الدراسة والتدريس، كان يتجه إلى السوق، فبدا لي أن أفيد منه أي شيء، ريثما نبلغ غايتنا، فبادرته بقولي: إيه، يا أستاذ جميل، جُد علينا، وهاتِ مما عندك.. فقال: القولُ لك، أستاذ؛ ففهمتُ أنه يريد مني بيتَ شعرٍ ليردّ عليه، فقلت مبادرًا: (ستبدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلًا … ويأتيك بالأخبار مَن لم تزوّدِ). وهززتُ رأسي بحركات لا معنى واضحًا لها، ولكنّ الرجل فهِمَ منها شيئًا لم يكن في خاطري حينها. دُهش الزميل، وتغيّر لون وجهه، وقال: ماذا تقصد؟ قلت: ما فهمتَه، و”إن اللبيب من الإشارة يفهم”. وكنت أقصد أن يرد عليّ ببيت شعرٍ يبدأ بحرف الروي الذي قفَلتُ به. فقال: فهمتُ عليك، أرجو أن تكونَ حليمًا كما أعرفك، وأن لا تتسرع في الحُكم، ودعني أخبّرك الخبر. هززتُ رأسي، وتصنّعتُ أني أعرف ما يضمرُ أو معظمه، وقلتُ هادئًا: هاتِ ما عندك حتى نشوف. قال: والله العظيم، يا أستاذ حامد، ما كنت أقصد الإساءة إليك، كلّ ما في الأمر أننا، يوم أمسِ، كنا جلوسًا عند أمين (مكتبة المدرسة)، وخاض القوم في حديث الثقافة، وجاءت سيرتُك، فقالوا إنك مثقفٌ ومبدع؛ فضحكت. وقسمًا بالله، إني لم أضحك ساخرًا منك، معاذ الله، وإنما ضحكت لأن القائل أراد أن ينال مني بك. هززتُ رأسي مجددًا، وقلتُ: ولكن ليس هذا ما أردتُ. قال: فماذا إذن؟ قلت راغبًا في معرفة المزيد: أنت أدرى بالموضوع. قال: حسنًا، أنت تقصد ما حدث الأسبوع الماضي، في اجتماع (مديرية التربية)، “تأنّ، ولا تعجل بلومك صاحبًا”، واسمعْ ما عندي، ثم افعلْ ما بدا لك، أنتَ تعرف أنني -أصلًا- لا أحب الاجتماعات، ولكني ذهبت مكرَهًا، أذكر أن أحدهم رشّح اسمَك للذهاب إلى العاصمة، كي تكون عضوًا في لجنة إعداد المناهج، وسألوني عن رأيي بالموضوع؛ فقلتُ لهم -والله يشهد على ما أقول- إن الأستاذ “حامد” جيّد، ولكنه ما يزال قليل الخبرة، ولا أراه اختيارًا موفقًا.. عليكم بالأستاذ مصطفى، هو لها وهي له.. هذا ما قلته. قلتُ: لا بأس، يا صاح، الأستاذ مصطفى أهلٌ لها حقًا، وهو أحق مني وأولى، ولكني كنت أقصد ما حدثَ قبلَ هذا، ثمة أمرٌ آخر غير الذي ذكرتَ، قال: هاتِ ذكّرني، لعلّي نسيت، قلتُ: إنك تعرفه جيّدًا، بل لا أحدَ يعرفه كما تعرفه أنت. ضرب بيده جبينه، وقال: ها… قد عرفت، لعلك تقصد ما حدث، الشهر الماضي، في (معهد الأنوار)، نعم أنتَ تقصد ذاك، وأرجو منك، مرة أخرى، أن لا تتسرع في الحكم، اسمع القصة كاملة، فكثيرًا ما تغمر التفاصيلُ الحقيقة، وهاك ما حدث: اتصلَ بي الأستاذ مروان.. مروان أستاذ الرياضيات -واسأله إن شئت- اتصلَ بي، منذ شهر تقريبًا، وطلب مني المرورَ به، ففعلت، وقال لي: ما رأيك أن يستلم الأستاذ “حامد” تدريس البكالوريا العلمي؟ فقلت: إن الرجلَ يعمل قبل الدوام، ولن يستطيع أن يوفق بين العملَين، سيكون متعَبًا، ولن يعطي الأمر حقه، هذا ما قلته له، وأنا مستعدٌ لمواجهة من يقول إني قلت أكثر من هذا. هززتُ رأسي يمنة ويسرة، وقلت: ليت أنّ الأمر يقف هاهنا، يا صديقي، إن ما يشغل بالي هو ما حدث قبل هذا. قال: أوه، أتراك تقصد كلامي، منذ شهرين، في (المركز الثقافي). مؤكد أنك تقصد ما حدث في ذلك اليوم؛ اسمعني أرجوك، والله العظيم، يا أستاذ حامد، لستُ أنا من قال: لا يليق بالأستاذ حامدٍ أن يكون عضوًا رئيسًا في اللجنة الثقافية، ولا ينبغي له.. اتركوه مشغولًا ببيع “الزعتر”. أنا ما قلتُ هذا؛ أنا كنتُ ممن ضحكوا منه، وسأعدّهم لك، إن أردتَ، وبشرفي، ما كنت أقصد الضحك منك، وإنما أضحكني ورود كلمة “الزعتر”، في سياق الثقافة، والله العظيم، هذا ما حصل. قلتُ لصاحبي، وأنا أداري عجبي من هول ما يحدث ورائي: وليس هذا أيضًا ما كنت أقصده، وإنك لتعرف ما أقصد، وتجتهد في إخفائه. تخبّط الرجل حيرة، وهو يفكرُ في قصدي، ثم قال: إذن فعلها سعيد، وأخبرَك بما حدث في (نقابة المعلمين)! قلتُ بهدوء: لا، والله، ليس سعيد من أخبرني؛ قال سأنبئك بما حدث بالحرف، وأنقصَ الله عمري إن أنقصتُ حرفًا من القصة، سعيد هو من فتح سيرة معلمي اللغة العربية، وهو من قال إنك… وإنك…، أما أنا فقلت (…)، ثم قال رضوان (…). قاطعْتُ “صديقي”، قبل أن ينهي اعترافاته، كنا قد وصلنا إلى آخر السوق، حيث يضع العم حنيفي صيدَه من السمك، ودّعتُ الزميل على أن نلتقي غدًا، ليكمل لي ماذا قال لرضوان، حين قال ما قال!

*اللوحة للفنان السوري دلدار فلمز


حمدي المصطفى


المصدر
جيرون