اليوتوبيات المتنافسة في سورية



قاتل عدة مئات من المتطوعين من شمال إفريقيا والشرق الأوسط إلى جانب الجيش السوري منذ أيار (مايو) من العام 2013، كجزء من حركة “الحرس القومي العربي”. ولم يكشف النقاب عن الأعداد بالضبط، لكن ناطقاً بلسان المقاتلين في حلب قال في شباط (فبراير) 2017 إن 150 “شهيداً” من الحرس القومي العربي قتلوا خلال أربعة أعوام. وبعد شهر من ذلك، أعلنت قوات الحرس القومي العربي أن أحد قادتها، العراقي إياد الجبوري، قتل بينما كان يقاتل “داعش” في تدمر. وكان الحرس القومي العربي قد شارك في القتال في حمص والقنيطرة (في مرتفعات الجولان المحتلة)، لكن أعلى مشاركة له كانت في منطقة الغوطة الشرقية، إلى الشرق من دمشق، حيث ساند ودعم الفرقة المدرعة الرابعة التابعة للجيش السوري في اشتباكاتها مع جماعات المعارضة.
مع كل اختلافاتهم، فإن أعضاء الحرس القومي العربي وعشرات الآلاف من المقاتلين الأجانب الذين يقاتلون مع “داعش” في سورية والعراق وغيرها من المجموعات الجهادية الأخرى، هم من الشباب المتأثرين بشدة بالأيديولوجية، والذين يريدون إزالة الحدود القومية التي نجمت عن التقسيمات الإقليمية في عشرينيات القرن الماضي. ويسعى كل جانب إلى تحقيق يوتوبيا منافسة: فبدلاً عن إقامة مجتمع إسلامي جديد، يروج الحرس القومي العربي (وفق شعاره الرسمي) لصالح “المقاومة، الوحدة العربية والاشتراكية”.
ومع ذلك، فإن طرقهم في التسييس تبقى مختلفة، وليست الأزمة السورية هي المناسبة الأولى لانخراط القوميين العرب: فقد كانوا قد سيسوا في السابق في تنظيمات ادعت أنها وريثة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر (1918-70). وثمة روابط واضحة بين تنظيم الحرس القومي العربي وتنظيم الشباب القومي العربي الذي كان قد تشكل في أوائل التسعينيات. وللشباب القومي العربي فروع في العالم العربي، وإنما ليس لديه مقر رسمي، ويقوم الحزب بتنظيم مخيمات سنوية للشباب، والتي كان أحدثها في المغرب في آب (أغسطس) الماضي.
يستند تنظيم الشباب القومي العربي إلى تقليد فكري له ارتباطات مباشرة بأعوام الخمسينيات والستينيات، ويستلهم الخبرات الاشتراكية والتنموية بوجود رقابة قوية من الدولة التي تقدم أساساً للتنمية الاقتصادية والصناعية. ويشكل المصري عصمت سيف الدولة (1924-96) الذي ضمت كتاباته الأفكار الناصرية والاشتراكية والإسلامية، مرجعاً رئيسياً للتنظيم. ويتعلم الشباب القومي العربي عن نظريات قسطنطين زريق (1909-2000) الذي كان قد درَّس في الجامعة الأميركية في بيروت، وألهم في الخمسينيات الحركة القومية العربية التي تسببت في نشوء التنظيمات اللبنانية والفلسطينية في أقصى اليسار بعد العام 1967: الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وحزب العمل الاشتراكي العربي، ومنظمة العمل الشيوعي في لبنان.
ترتبط شبكتا الحرس القومي العربي والشباب القومي العربي بأحزاب سياسية قانونية في بلدانها. وفي لبنان، تدعمهم حركة المرابطون (حركة ناصرية مستقلة). وكانت للحركة روابط مع حركة فتح بزعامة ياسر عرفات. ولا يوجد لها أي تمثيل في البرلمان، لكنها تشارك في مظاهرات تستهدف وقف النزاعات المجتمعية ووضع حد للنظام العقائدي اللبناني (حيث يتم تقاسم المناصب الحكومية الرئيسية بين ممثلي مختلف الطوائف).
وكان الأمين العام لحركة “المرابطون”، الجنرال مصطفى حمدان، رئيس الحرس الجمهوري إبان رئاسة إميل لحود من العام 1998 وحتى 2005. واتهم بالمشاركة في اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري في شباط (فبراير) من العام 2005، وسجنته السلطات اللبنانية حتى قضت المحكمة الخاصة بلبنان بالإفراج عنه في العام 2009. ويعتبر حمدان زائراً منتظما لدمشق حالياً، ويظهر كواحد من المتحدثين الرسميين بلسان الحرس القومي العربي في التجمعات العامة.
وفي الأردن تتقاطع شبكات الحرس القومي العربي مع لائحة القومي العربي، وهي حركة أسسها عضو حركة فتح السابق إبراهيم علوش. وفي تونس، تنتمي فروع الشباب القومي العربي في الغالب إلى مجموعات ناصرية صغيرة تشكل جزءاً من ائتلاف يساري ضخم، الجبهة الشعبية، التي لها 15 عضواً في البرلمان (جمعية ممثلي الشعب).
ومع أن الحرس القومي العربي كان قد تأسس في العام 2013، فإنه يعتقد على نطاق واسع بأن أيديولوجيته الاشتراكية قديمة. ويخفي حنينه إلى الاشتراكية الناصرية التضاد طويل الأمد بين حزب البعث السوري وجمال عبد الناصر، خاصة خلال فترة الجمهورية العربية المتحدة قصيرة العمر (1958-1961). لكن قومية الحرس القومي العربي تظل انتقائية. ففي نيسان (أبريل) من العام 2017، قام القائد العسكري للحرس، ذو الفقار العاملي، بزيارة لمسقط رأس الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد (والد الرئيس الحالي بشار)، للإعلان عن الولاء لمؤسس حزب البعث السوري. ويشيد الحرس القومي العربي بالمجموعات التي تكون نظرتها غريبة عن أيديولوجيته الأصلية؛ كان على القومية العربية أن تتأقلم مع طابع العصر الأخلاقي والعقلي والثقافي.
ويظل حزب الله اللبناني نموذجاً، وينظر إليه على أنه مثال للمقاومة الإقليمية ضد إسرائيل والولايات المتحدة أكثر من النظر إليه على أنه تنظيم لبناني شيعي. ويوجد للحزب القومي الاشتراكي السوري، الذي يدعو إلى إقامة سورية الكبرى من القدس إلى بغداد، راهناً عدة آلاف من السوريين واللبنانيين الذين يقاتلون مع النظام السوري. ومثل حزب الله، يعتبر حليفاً طبيعياً للحرس القومي العربي. ويشارك مقاتلوه أحياناً في نفس المعارك.
ما تزال النقطة المرجعية الغريبة للحرس القومي العربي هي الرئيس العراقي الراحل صدام حسين (1937-2006)، الذي لا يذكره الحرس في دعايته أبداً. ولا هذا غريباً، نظراً لأن الحرس القومي العربي يدعم حزب البعث السوري الذي دخل في حرب باردة طويلة مع نظيره العراقي، والذي انضم العديد من أعضائه إلى “داعش” للقتال ضد إيران والشيعة.
يشن الحرس القومي العربي حملات سياسية ضد الصهيونية والوهابية السعودية، بالإضافة إلى انخراطه في القتال. وهو يحتفل بذكرى يوم الأرض كل عام مع الأحزاب الفلسطينية المرتبطة بالنظام السوري؛ وتذكر نشراته الصحفية مصير جورج إبراهيم عبد الله، العضو السابق في الفصائل اللبنانية الثورية المسلحة، والمسجون في فرنسا منذ العام 1984؛ كما أن أعضاء من الحرس القومي العربي زاروا المدارس الابتدائية والثانوية السورية في حلب بعد أن استعادت القوات الحكومية السورية السيطرة على شرقي المدينة في كانون الأول (ديسمبر) 2016.
على الرغم من النظر إلى القومية العربية في كثير من الأحيان على أنها حركة علمانية، فإن الحرس القومي العربي يبرز بعده الإسلامي؛ وتعرض أشرطة فيديو ينشرها على وسائل التواصل الاجتماعية مقاتليه وهم يتلون سورة الفاتحة، أول سورة في القرآن. وهو يقوم بمبادرات شعبية في دمشق تتصل بإحياء ذكرى مناسبات التقويم الهجري؛ المولد النبوي الشريف ووجبات الإفطار في رمضان. وعلى ضوء أنهم مناهضون لتنظيم “داعش”، لا يستطيع المنافحون الجدد عن القومية العربية التعويل على الوعي السياسي، مهما كانوا مطلعين على النظرية الناصرية والبعثية. وقد يحاول الحرس القومي العربي التنافس مع المجموعات الإسلامية في أماكنها.
أثارت استعادة النظام السوري لأراضٍ في العام 2017 موضوع عودة مقاتلي الحرس القومي العربي إلى أوطانهم، مثلهم مثل المقاتلين الجهاديين. وفي شباط (فبراير)2017، دعا وزير العدل التونسي السابق نور الدين البحيري، عضو البرلمان من حزب النهضة الإسلامي، إلى إجراء تحقيق قضائي مع المواطنين التونسيين الذين قاتلوا مع بشار الأسد في سورية. ولقي الدعم من عماد الديمي، عضو مجلس الأمن والدفاع في المجلس، وحليف الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي.
ويبدو أن هذا هو وقت الحساب: فمنذ العام 2011، واجه حزب النهضة وشريكه السابق في الحكومة، المؤتمر من أجل الجمهورية، اتهامات من الجناح اليساري في الجبهة الشعبية بالسعي إلى العفو عن الجهاديين التونسيين الذين يسعون إلى العودة من سورية، أو حتى بتشجيعهم على الذهاب هناك. والآن، تصر الأحزاب الإسلامية على أنه يجب أن تكون هناك مراقبة تفرض -ليس فقط على الجهاديين العائدين، وإنما أيضاً على مقاتلي الحرس القومي العربي، وتدعي بأن له روابط مع بعض قطاعات الجبهة الشعبية.
يقسم الموضوع السوري المعارضين السابقين للرئيس المعزول زين العابدين بن علي. ومنذ العام 2011، دعم حزب المؤتمر من أجل الجمهورية والنهضة الانتفاضة السورية، بينما وقف آخرون، مثل الجناح اليساري في الجبهة الشعبية، مع النظام وحلفائه. وكذلك فعلت قطاعات من الاتحاد العام التونسي للشغل، الذين زار بعض أعضائه الرئيس الأسد في دمشق في تموز (يوليو) الماضي للتأكيد له على دعمهم له. ومن المرجح أن يواجه الأردن ومصر ولبنان نقاشاً مماثلاً.

(*) كاتب فرنسي – لوموند ديبلوماتيك


الغد


المصدر
جيرون