“شيزوفرينيا” الأغنية السورية الجديدة



بعد نكسة حزيران/ يونيو 1967 انكسر كلُّ شيء؛ بما في ذلك الأغنية العربية السائدة، حتى إن البعض قد اعتبر أغنيات أم كلثوم أحد أسباب تلك النكسة!

بات على الأغنية العربية أن تُجدِّد نفسها: كلماتٍ ولحنًا وطريقةَ أداءٍ وغناء، لكن ذلك احتاج إلى سنوات حتى بدأت أولى ملامح أغنية جديدة، أسماها البعضُ أغنية مُلتزمة.. من حيث وقعت تسميتها في فخّ الثقافة الجدانوفيّة السوفيتية التي شملت الأدب والسينما والموسيقى والفن التشكيلي أيضًا.. حتى أُطلِقَت عليها لاحقًا تسمية “الأغنية البديلة”.

وبينما تأثرت تجربة الشيخ إمام/ أحمد فؤاد نجم في مصر، بميراث سيد درويش من غير أن تجتازها، تأثرت التجربة اللبنانية بالمدرسة الرحبانية مع محاولات تلوينها بالجاز الغربيّ تارةً: زياد الرحباني، وبحماسة الأناشيد: خالد الهبر، وبمحاولة إضفاءِ طابعٍ “بوليفيني” مع الاحتفاظ بالتطريب في داخله: مارسيل خليفة. بينما بقيت تجربة “فرقة العاشقين” أسيرةَ المدرسة الموسيقية العراقية ولكن بكلماتٍ ثورية، وقفزت تجارب المغرب العربي نحو ما بات يُعرَف لاحقًا بظاهرة “الراب”.

في التجربة السورية للأغنية البديلة التي بدأت أواخر السبعينيات ومطلع ثمانينيات قرنٍ مضى في حلب.. مع تجربة عابد عازاريه، ثم مع الثنائي: رضوان رجب – فهد يكن، كان واضحًا منذ البداية.. كم تحتاج إلى تجاوز السائد الموسيقي، حتى لو أنها جاءت بكلماتٍ ومَعانٍ جديدة؛ باعتمادها الشعر الحديث أكثرَ من الزجل؛ وكم تحتاج إلى تجاوز التجربتين: المصريّة واللبنانية معًا؛ وتلك مُعضِلة الموسيقى السوريّة على الدوام، حتى إن تجربة سميح شقير لم تنجُ من هذا، بالرغم من إعادة إنتاجها للتراث الشعبي في جبل العرب وحوران، بنكهة جديدة، كما اقتربت تجربة بشار زرقان أكثرَ فأكثرَ من موجة إعادة الاعتبار للتراث الغنائيّ الصوفيّ، حتى إن بعض تجاربها أدخلت الأداء الأوبراليّ فيها؛ فأبقتها محصورة في جمهور النخبة! يتبدَّى كلّ هذا في كلِّ التجارب السورية اللاحقة، بما فيها تجربة الموسيقي والمُؤدِّي -حتى لا أقول: المُغنِّي- وكاتبِ أغلبِ أغانيه، شعرًا وزجلًا: عبد الله غباش، وبخاصةٍ في ألبومه الأخير.

شيزوفرينيا.. بعد 3 ألبومات!

أصدر عبد الله غباش أربعةَ ألبوماتٍ موسيقية حتى الآن، وربّما لديه خامسٌ أو سادسُ لم يستطع بَعدُ إنتاجَهُمَا؛ بسبب ظروف تغريبتنا السورية الكبرى، وكانت تجربته قد بدأت في حلب قبل ثورة 2011 واستمرت في عواصم تغريبته، واللافتُ فيها أغنياته الساخرة الانتقاديّة الاجتماعية والسياسية أيضًا: (باره يوك، طز بالديمقراطية، سماعي ماسوني، خلافي معك، اللهمّ عافينا..) وسواها، ولو أنه اكتفى بها وطوَّرَها؛ لمضى إلى شيءٍ لم يسبقه إليه أحدٌ في سورية سوى سلامة الأغواني ورفيق سبيعي “أبو صيّاح”، ولكن بنكهة القرن الحادي والعشرين.

تقع مُجمَل تجربة عبد الله غباش.. ما بين الطقطوقة -الساخرة عادةً- وبين الأغنية الشعبية، وما بينهما أغنية القصيد/ القصيدة، وثمّة بحثه عن موسيقى صافية، كما في مقطوعاته عن حلب وسواها؛ وفي البحث عن صوته الخاصّ بين زحمة الأصوات.

بينما تتجاذب تجربته المدرسة الموسيقية لمدينته حلب، ومدرسة سيد درويش المصرية الشعبية الساخرة وامتدادها عند الشيخ إمام، كما تتجاذبها تجربتان موسيقيتان لبنانيتان على نحوٍ لافتٍ، حتى في طريقة بناء الجملة الموسيقية وفي أسلوبِ توزيعها؛ أقصد تجربتَي زياد الرحباني ومارسيل خليفة؛ برغم الفارق الشاسع بينهما، وآملُ أن يخرج غباش منهما معًا، في ألبومه الخامس، كخروج آدمَ من الجَنَّة بعد أن يهرش بأسنانه تُفّاحة الطرب!

ويتبدّى تأثير زياد الرحباني والمدرسة اللبنانية الجديدة عمومًا في أكثر من أغنيةٍ سابقةٍ له؛ كما في هذا الألبوم مع أغنيتيه: “ما في داعي” و “دوَّرت عليك” الخ. ويتبدّى تأثير مارسيل خليفة في أكثر من أغنيةٍ سابقةٍ له أيضًا، وفي أكثر من ألبوم.. كما في أغنيته الجديدة: “الحب والثورة” المُهداة إلى الشهيد مصطفى كرمان، وكذا في أغنيته الجديدة: قصة العينين.

بينما يتبدَّى اندماجُه، كلاجئٍ في مجتمعه الجديد الألمانيّ، مع أغنيته السابقة “غيفارا” و”طالعة بلاقيا طالعة”، وفي أغنيته الجديدة: “عندي أفكار”؛ كما لو أنه يبحث عن باب تواصلٍ جديدٍ. وفي باب التطريب.. أغنيتُه: “تَعَا لَعَنَّا”. بينما تمزج أغنيتُه: “اللهمّ عافينا” بين مدرسة سيد درويش والمدرسة الحلبية؛ بأسلوب لطيفٍ وناجح.

لا تعني كلُّ تلك الأمثلة أنّ عبد الله غباش لا يملك صوتًا خاصًا به، لكنها سيرورة التأثر والتأثير، بين الأجيال الإبداعيّة على مرِّ العصور، والمُتميّز إبداعيًا هو مَن يخرج عنها ويُضيف جديدًا لها؛ وعبد الله غباش يملك مفردات ذلك؛ كما يملك شجاعة التجريب، وعمرُه الشاب، كما وجودُه في ألمانيا، يفتح له آفاقًا جديدة وبخاصةٍ في سياق دراسته للموسيقى هناك، بعيدًا عن محاولات المزج السائدة بين موسيقى الشرق وموسيقى الغرب، فتلك محاولاتٌ سياحيّة غالبًا؛ ولن تُفضِي حتى إلى موسيقى مُعَولَمَة؛ فكلُّ شيءٍ يتطوّر من داخله أولًا.. من حيث لا يكفي الخارجيُّ وحدَهُ لذلك.

أقترحُ على عبد الله غباش أن ينتقي نصوصًا لِسِوَاه بنسبةٍ أكبرَ من نصوصِهِ هو، كمَن يرى نفسَهُ، ولكن بعيونِ سواه، فثمّة تجربة مُختلفة حين نتناول نصًا لم نكتبه نحنُ؛ وبخاصةٍ إذا كان ما نكتبه على طريقة “القَدّ” (مُفرَد: قدود حلبية) وبمعنى آخر: على قَدِّ قُدرتنا على تلحينه وأدائه.

أقترح عليه أيضًا أن يبحثَ عن أصواتٍ أخرى تُؤدِّي ألحانه، ولو أنه تعاون مع أصواتٍ نسائية سابقًا: “ابتسام شكر – تيا”، وفي تجربته الخاطفة مع “بسمة جبر”، عبر أغنية: “في حال” التي قد نجحت؛ لكن جميعها لم تكن نقيضَ صَوتِه؛ ليُؤلِّفَ لها موسيقى مُختلِفة عمَّا ألِفَه وألَّفَه وتآلف معه.

ربما كان تعاونُه مع “إبراهيم درويش” أفضلَ محاولاته، وبخاصةٍ لدى توظيف تُراثِ حلبَ الموسيقيّ في أغنياته، لكنها لم تستمر، بسبب هجرة غبّاش بالبلم نحو الحاجّة ميركل.. تاركًا إبراهيم وَحدَه على شاطئ البوسفور!

ومع أنّي أتوقعُ أن يرُدَّ بأغنيةٍ ساخرةٍ من مقترحاتي؛ لكنِّي سأقترح عليه أيضًا أن يُجرِّبَ التعاونَ مع مُوزِّعٍ لموسيقاه؛ ليرى بنفسه أولًا.. قرارَ موسيقاه في جوابِ سِوَاه؛ ثمّ سنراه!

لو لم أحبّ تجربة عبد الله غباش؛ لمَا صارحتُه بكلِّ هذا، وهو يعرف هذا جيدًا جدًا.

– رابط ألبومات عبد الله غباش:

https://www.youtube.com/channel/UCXeeWM3OOokG2hpnf2JejEw/playlists?view_as=subscriber

*- رابط أغنية (في حال) كلمات وألحان: عبد الله غباش؛ غناء: بسمة جبر.

https://www.youtube.com/watch?v=qoR0xbeTNjo


نجم الدين سمان


المصدر
جيرون