السوري المتجمد



“ولكـــنَّ الفتى العربي فيــــــها… غريبُ الوجهِ واليد واللسان”. المتنبي.

عربيُّ المتنبي هنا هو السوري الغريق، المنفي والقتيل، والمتجمد على الحدود وداخلها، في الجبال والأنهار والوديان، داخل الخيام والبيوت والمشافي والزنازين، بفعل غاز السارين والكلور.. يموت السوري حرقًا في أفران الأسد، وببراميل وصواريخ متفجرة، بعد الغرق في قاع البحار والمحيطات، يأتي الثلج ليُنهي أرواح سوريين تجمّدوا على الحدود السورية اللبنانية، جثث تغبط الروح وتُسعف العين على الرؤية، لكنها لا تسعف الضمائر، رغم ريح صرصر تارة، وعواصف متربة وثلجية تارة أخرى، من الغوطة إلى داريّا وحرستا واللطامنة وخان شيخون، إلى التاريخ الممزوج بالدم، تناوب على السوري “شقيقه”، وطاغيته، تارة بالقذائف والبراميل، وأخرى بتوقيع يحرق التاريخ وينسف الجغرافيا، إلى الطبيعة المتحولة إلى أداة قتلٍ تُعين كل هؤلاء على أرواح السوريين الهائمة بين القطبين.

يسافر السوري من البحر إلى الثلج، المتشابه في الأمر تجمد الأرواح والمشاعر الإنسانية، يقتلونه كل يوم، لكنه لا يموت، يقتلعونه من القصير وحمص والغوطتين وأرياف درعا وحلب وحماة والرقة والقامشلي ودير الزور.. يتشرد في الزعتري، وعرسال وكلّس، وهاتاي.. يغوص في وحل النزوح، يتجمد جسده على حدود العار، بعد أن سُفحت روحه في المخيمات تحت شمس حارقة، تتبدى تحتها بلاهة أخلاقية وسياسية، تقول دومًا حديثًا عن تهريب البشر بين الحدود لا حديثًا عن جزارهم داخل حدود الوطن.

المفارقة المأسوية، في موت السوري، هي السؤال عن الفرق بين موته في البحر أو البر، تجمدًا أو حرقًا، وتقول البداهة إن أمكنة الموت لا وجود لها من دون أذرع، ترسم شكل النهاية للأرواح، فإن كانت الثلوج أو البحار والحدود هي توابيت طبيعية لجثامين السوريين؛ فإن كسر البداهة المتداولة في بعض الإعلام، عن موت السوريين تجمدًا، يعني أن هناك وطنًا يعيش فيه سوريون أوضاعًا مأسوية، ومن لا يذكر ضحايا النزوح والوحل، ولا يحيلها إلى فاشي داخل الوطن، وإلى مرتزقة على حدوده تمنع السوري من أن يتعرف على نفسه، كلاجئ خَسِر وارتحل من مكان إلى آخر، فإن الخسارة التي فرضت عليه تعطيه مباشرة صفة سلب معاناته في إعلامٍ يقول عنه: إنه الناقص الذي حق عليه العذاب والخسران، لأنه فكر بأحلامه بعيدًا عن بساطير استوطنت تاريخه، ودمرت حواضره بالتطهير العرقي، بعد أن عبرت ممرات الثلج التي سلكها السوري.

السؤال الآن: ما شكل العلاقة بين وجوه غطتها ثلوج، وأخرى غمرتها ملوحة المياه، أو أجساد ظهرت عليها علامات التسمم والتعذيب حرقًا ونسفًا؟ وما شكل العلاقة بين الإنكار والهروب من مجزرةٍ تنتهي عند بؤس السوري المنسي والمتناثر في أماكن عربية وغير عربية، يعاني فيها من منفى متجمد، ووحل تغرق فيه إنسانية العالم، أو شمس تحرق جسده، فضلًا عن معاملة ظالمة نثرته في أصقاع الأرض؟ لم يتغير في الوضع السوري شيء باستثناء هذا الانهيار الكبير الذي أصاب العالم العربي، والذي يدفع السوري نحو حصار جديد، يصور له فروة الدب الروسي أنها الوحيدة التي تجلب الدفء له، قبل أن يعطف عليه انحطاط القيم الإنسانية بالقول “لاجئون سوريون يموتون تجمدًا، في أثناء محاولتهم التسلل إلى لبنان، وهم ضحية المهربين”.


نزار السهلي


المصدر
جيرون