فيينا: بين “باب الحارة” و”كاسك يا وطن”



إنها فيينا، بلاد الأنس والجمال، كما غنتها أسمهان ذات يوم، وأسمهان سورية المنبع والهوى والانتماء، وعينها -كما أعين السوريين أجمع- تلتقط مواضع الجمال، أينما كان وكيفما كان. واليوم، يُقال إن فيينا ذاتها ستحتضن اجتماعًا للأمم المتحدة، مع كل من “المعارضات السورية” في وفد هيئة التفاوض المنبثق عن لقاء (الرياض 2)، وحكومة النظام السوري، وذلك بدلًا عن مواقع لقاءاتها في جنيف، بعد أن أتمت جولتها الثامنة الشهر المنصرم، بين تأويل في فشلها من قبل النظام، وترويج لنجاحها، كونها أظهرت النظام على أنه رافض لأي حل سياسي، فهل يمكن لفيينا أن تكون (حمام القيشاني)، بعد مسلسل (باب الحارة) السمج في جنيف وأستانا؟

كان من المفترض أن تكون “سوتشي” (المنتجع السياحي المفرط بالإثارة الذي اعتاد بوتين إقامة حفلات نشوته السياسية والحياتية فيه) هي مكان الحل الذي يريده الروس للمسار السوري، وبغض النظر عن شرعية ما يريده الروس بمضمون الحل، فإن “سوتشي” كانت المفترض أن تكون بمقرراتها المفترضة بديلًا شرعيًا عن مقررات (جنيف 1) القاضية بتشكيل هيئة حكم انتقالي، بحيث يصبح ما سمي بـ “مؤتمر الشعوب السورية قاطبة”، أو “مؤتمر الحوار الوطني” بمخرجاته، بديلًا أمميًا عن (جنيف 1) وما تتضمنه من مرجعيات.

لماذا فيينا بدلًا من جنيف؟ ولماذا اقتصرت “سوتشي” على دعوة ليوم واحد وفقط؟ أسئلة مريبة بل محيرة في الوقت ذاته، فقد يذهب عديد من السوريين، لضرورة الحوار السوري، إلى أي مكان في العالم؛ لإنهاء أزمتهم وحلّ استعصائها، فثمة من يروّج لسوتشي أو حميميم! وآخرون يتمسكون بضرورة تنفيذ مقررات جنيف، ومن جنيف ذاتها، إنهاءً للكارثة السورية ولتحقيق الانتقال السياسي اللازم والممكن لهذه المأساة وفظاعة جريمتها. إذ ليس بإمكان أحدٍ التكهن بمجريات ما خلف الكواليس السياسية، بل لِنقُل الأمنيّة، على مستوى العالم، وليس ذلك لقصر نظر المفكرين والمحللين السياسيين، بل لأن صناعة الحدث العالمي تحتاج إلى كثير من الخبرات والعلاقات المقربة من دوائر صناعته بالأساس. فكيف إن كان الأمر يتعلق بنقطة انعطاف مفصلية في تاريخ توجه العالم واستقطابه.

إرادة الثورة -بما مثلته من قوى معارضة وثورية- تدرك تمامًا أن التمسك بمخرجات (جنيف 1)، وبضرورة التفاوض بمرجعية أممية لإيجاد حل سوري يتمسك بثوابت الثورة، يعني أولًا أنها إمكان سياسي، دفع الشعب من خلفه الكثير من التضحيات للوصول إلى التغيير الوطني المرتجى. وثانيًا ضرورة إيقاف القتل والتهجير الممنهجين للشعب السوري. وثالثًا ضرورة إنهاء ملف الديكتاتورية الذي بات وبالًا على المنطقة والعالم أيضًا. لقد وقفت دول أصدقاء الشعب السوري متراخية أمام الضغط الروسي والتفاهمات العسكرية والسياسية التي أبرمتها مع محيطها الجيوسياسي المتمثل بكل من إيران وتركيا، على اختلاف أجندتهما في سورية والمنطقة؛ ما جعل روسيا شبه متفردة بمقتضيات المسألة السورية، وهذا ما أضعف أوراق الثورة العسكرية والسياسية، وبخاصة بعد اكتفاء الأميركيين بدعم المكون الكردي فحسب، في الشمال الشرقي من سورية، مع عجز أممي بمحاولة فرض قوانين ملزمة دوليًا، من خلال مجلس الأمن، على النظام وبالضرورة من خلفه روسيا، وذلك عبر الفيتو الروسي المتلاحق والصيني أيضًا.

روسيا التي تحاول جاهدة تثبيت وجودها السياسي بمرجعية أممية دولية، وليس وجودها العسكري فقط، تدرك تمامًا أنها لا تبحث عن نصر عسكري فحسب، على حساب الثورة السورية، بل تعمل وفق خطوط متوازية: عسكرية وسياسية، محلية ودولية، بمرجعية تفكير عنصري فوق فاشي أو نازي، مفاده استعادة روسيا مكانتها العالمية والأممية، من خلال وجودها الجيوسياسي في دوائر متعاقبة من الهيمنة على ثالوث الممرات البرية والمائية والاتصال الجغرافي التاريخي بالشعوب “الأوراسية”، في محيطها الإقليمي، وفق نظرية تسميها نظرية رابعة سياسيًا، تعتمد على موضوعة الجيوبوليتيكا المواجهة للتفرد الأميركي في العالم، طوال عقود ثلاث خلت؛ فكانت الموقعة السورية نقطة تحقيق مهمة لها، في إقفال الدائرة التي تبدأ ممّا يسمى دول أوروبا الشرقية سابقًا مرورًا بتركيا فسورية، فالطريق البري المعبد عبر البوكمال فبغداد وطهران وصولًا إلى موسكو. ولذلك دفعت بكل ثقلها العسكري في معركتي حلب والبوكمال من جانب، وبكل ثقلها العفن من خلال منصة الفيتو الأممية، لتعطيل أي حل ممكن دوليًا يخالف ما ترمي له، وبضغوط إقليمية مرة ومراوغة مرة، مع كل من إيران وتركيا واستمالتهما للتحالف الجيوسياسي، بالرغم من اختلاف أجندتهما بل خلافهما أيضًا، وأيضا تحاول روسيا بكل ثقلها المحلي جرّ المعارضة السورية إلى موقع خلاف جنيف، فكانت موقعة سوتشي المفترضة.

المسألة السورية باتت فوق سورية، باتت موضوعة صراع بالأدوات، بين نظامي العولمة بقطبتيه الأميركية الوحيدة، والقوة المفرطة للجيوبولتيكا الروسية، تتكثف في سورية وعلى حساب شعبها، لتقف كل من موقعتي سوتشي وجنيف بينهما، في صراع سياسي كبير، ينذر شرًا على أي خرق في خطوط التوازن الممكنة بينهما، أو ما أسماه ألكسندر دوغين (المنظر الأكبر للنزعة “الأوراسية” الروسية وصاحب مؤلفات عدة في هذا السياق)، “توازن الرعب العالمي”، من خلال خطر الحرب المباشرة التي تؤدي إلى حرب نووية تفني الجميع؛ ما جعل إمكان فرض حلول سياسية ممكنة عندما تتدخل قوة عظمى في منطقة حتى لو لم يرض الطرف الآخر، وهذا ما فعلته أميركا سابقًا في أفغانستان والعراق وكوسوفو، وتحاوله اليوم روسيا في سورية.

من هنا تصبح فيينا التي دعا إليها المندوب السامي الأممي: دي ميستورا، حلًا وسطًا بين مسلسل (باب الحارة) في جنيف، ومهزلة غوار الطوشة في (كاسك يا وطن)، في سوتشي، بحيث لا يتحقق لروسيا كلية تفردها بالملف السوري، ويُفلتر معظم الخلافات السياسية الدولية حول سوتشي، ولا بتنفيذ كامل شروط جنيف التي ترى روسيا أنها تجهض مشروعها، فتعاديها كما تعادي الشعب السوري، وتحاول -بكل ما أوتيت من غطرسة وقوة- انتقاءَ شعوب تفترضها منه على مزاجها، وذلك بتهجير أكبر قدر ممكن وتهميش آخر وفرض نفسها على البقية منه، خصوصًا أولئك الذين رأوا بها خلاصًا لهم ونصرًا مزيفًا على بقية الشعب السوري المبتلى بكل صنوف القتل والجريمة. لتصبح اليوم “سوتشي” -وفق هذه الصورة- مجرد مهزلة إعلامية وكارثة سياسية، كما كانت (داعش) قبلها، لإثبات فرض تآكل الثورة والشعب من خلفه، بينما الحقيقة الأعمق أن الجيوبوليتيكا الروسية وبطشها هي المتآكلة سياسيًا مع الزمن، وننتظر أن نرى مصيرها، كما العولمة، في ظل استمرار انتهاكهم الصارخ للثورة السورية واستنزافهم ومراوغاتهم السياسية.


جمال الشوفي


المصدر
جيرون