إسماعيل الرفاعي ابن الميادين وجار الفرات تجربة مترامية من الأزرق حتى تراجيديا الرماد



من يأتِ من ثقافة الفرات؛ فلا بد أن يحمل غيمة تملأ النص واللوحة، لا بدّ أن تكون الزرقة مداه، مهما طغى الرمادي في الحياة، فالفنان والكاتب إسماعيل الرفاعي، الذي أتابع منشوراته ولوحاته في المعارض وعلى صفحة (فيسبوك)، فأشهق من وجع ما يحتفظ به داخل اللوحة من تراجيديا وأساطير وحكايات، وكأنما يكتب أسطورته، وهو المنتمي إلى الفن، لا يستطيع الخروج منه، ما إن ينتهي من لوحة حتى يبدأ بأخرى، وكأنه يمسك بصيرورة الزمن، ليقول: “الفن يحررني من وجع الحرب، وأخبار الاعتقالات والموت، وأنا هنا أمسك بسلسال من فضة الوقت، أقرأ عالمي الداخلي الذي يفيض لونًا”. ولا نقول أبدًا لماذا انزاح اللون الأزرق في تجربته نحو الرمادي، المرحلة التي ما يزال مستغرقًا فيها، فالحرب ومآلات الثورة ومشهد الدم، كل هذا يكتبه بماء اليقظة، لا يريد أن ينام، وإن نام؛ فستبقى عينٌ على الحلم وعينٌ على اللوحة.

إسماعيل الرفاعي، ابن دير الزور، وتحديدًا الميادين، جار النهر في بيت لا يغلقُ بابُه، وربما يكون الفرات أحد أفراد أسرته، الذي ينثر أساطيرَه على ضفاف المكان، نراه في لوحاته يحاكي مشهد الأمّ والخوف والفقد، قامات منكسرة، بورتريهات، ولوحات جدارية فيها امرأة، وربما امرأة ورجل وجموع أحيانًا، يبدو فيها الحب واضحًا، لكن أيّ حب، وضمن أي مناخ من الرعب يمضي إلى الرماد!

ولأنه فنان مرهف؛ فإن الرمادي يحضر في شخوصه، إلى جانب الأبيض والأسود بتدرجاته؛ حيث يضعنا أمام منحوتات تفيض بالأسى. هكذا يرسم التراجيديا بحسِّ عاشق نضج فيه الوجع والفن والرؤيا، فمن المجموعات اللونية والتجريد والتشخيص، يمضي إلى الرماديات، حيث خط التحوّل يبدو واضحًا وببعد تعبيري في العيون والشخوص وخطوط اللوحة.

وأنت للأزرق:

بنظرة سريعة في تجربته، نجري مقارنة، فقد كان في لوحاته أزرق، وكأنه يرسم لون الهدأة والحب والرومانس، من خلال حضور المرأة الساطع، فللمرأة هناك تشكيلات متماوجة، خطوط توحي بذاكرة الحنين، أنتج معرضًا بعنوان (تلاوات في محاريبها) و(هي وكائناتها) إلى أن يصاب الرفاعي بوجع الفقد، فبعد فقد أمه يبدأ معها مرحلة خاصة بالأم وحدها، يجرّ عباءتها إلى اللوحة، وجهها، نومها، عيونها، قلقها، حزنها، وكأنه يعود إلى عتبة البيت الأولى فاتحًا فضاء على العالم، يرسم بورتريه لأمه، حتى شكل بمجموعة أعمالٍ معرض (أمي)، استقطب فيه مكونات الفرات، فغيمة الطفولة كما يقول “ما تزال على حالها معلقة عند بيتنا القديم”.

نرصد في اللوحات الحزن في عيون الأم، عصبة الرأس، وهنا نمسك في رسوماته بخيط موسيقى شفيف، الفراتيات، بين التجريدي والتعبيري، وكأنه يطلق الموليا مع الأجساد داخل اللوحة، والوجوه، والعيون. لمَ لا، وهو يرى المرأة “رمزًا جماليًا مغايرًا، ومفردة بصرية، يمكن الانطلاق من خلالها إلى عوالم لا نهائية”.

الرمادي وتراجيديا الواقع

ولأنه مشغول بهاجس الفن؛ فإن معادلة الواقع والفن تختلط فيها كل المدارس، التشكيل والتجريد والتعبير والسريالي، وكأنه ينحو نحو المنحوتة، وجوه كأنها تقف على مسرح، تشكيلات وانحناءات تشير دائمًا إلى الوجع الذي طفحت به الروح، اللعب على الوجوه والإيماءات والأوضاع، طاردًا اليباس خارجًا. كيف تطلع هذه الملامح من أعماقه، تتوالى الأشكال، وكأن الملحمة لا تريد أن تغادر، رأس في حضن امرأة، رأس على كتف رجل، أجساد متداخلة تشي بالحب، وكأنه يكتب قصيدته بلون الرماد والحياة. الوجه الفراتي يحضر بقوة الملامح، يستعيد المسيح وصلبه وتشييعه، ضمن طقس جنائزي، يأخذنا إلى عالمه الداخلي المتفجر بالحب والأسى، إلى بعد كوني للإنصات برهافة أكثر للداخل، وكأننا في رحلة… فبعد عام 2011 غير ما قبله في تجربة الرفاعي.

نقلة مفاجئة، من مستوى إلى مستوى أعلى، التحوّل من المشهد السوري والموت اليومي، إلى المواضيع بشكل عام، بورتريهات بحجم مترين، والتي تختزل التراجيديا، وجوه شخوص رماد، سواد، أسطرة الكائن، المزج بين البعد الداخلي للإنسان والجانب الشاعري، أعمال تعكس وجه الحرب.. وهو ما يدفعنا إلى التأمل، فما نراه يصعب التقاطه خارج دائرة الألم والأسى، يتجاوز المشهد اليومي بهذا المشهد الملحمي. من هنا، هو يؤكد أن ما يجري هناك: “لا يحتاج إلى تلوين، فهو شديد الوضوح، ثمة قاتل وهناك مقتول، وعليك أن تختار مع من تكون”.

بداية التجربة الرمادية، أسماها (دفتر الشهداء)، فبعد كل شهيد ومجزرة، وقد كان هناك الكثير من أهله وأقاربه وأبناء بلده، ووطنه الأكبر سورية، كان ينفذ أعمالًا تشكيلية تعنى بأرواح هؤلاء الشهداء، ولكن المشهد المخيف في تنامي الموت، دفعه إلى فضاء يعكس التراجيديا التي وصلنا إليها، والتي لا تقل عن أي أعمال عالمية.

اعتبره الناقد محمد الجزائري فنانًا مجددًا: “فهو ثوري ليس فقط في مضمونه، بل في شكله وبعده الجمالي أيضًا، وهو يضيف إلى مصطلحي الصورية والأيقونية دلالات جديدة”. ومما لا شك فيه أن تجربة الفنان إسماعيل الرفاعي تتوزع بين الشعر والرواية والفن التشكيلي، ورغم هذا التنوع، فإنه ينحاز إلى التشكيل. أنجز روايته الحاصلة على جائزة الإبداع العربي في الشارقة (أدراج الطين)، وكان محظوظًا في الحصول على مرسَمٍ خاص في (بيت الشامسي) بالشارقة، كما عمل في (إدارة الفنون)، وفي (بينالي الشارقة الدولي)، إضافة إلى عمله الصحافي، وقد نال جائزة دبي للثقافة، وشارك في (آرت) أبو ظبي.

يقول الرفاعي في دفتر الرسام: “باسمك أيها العدم.. تفرط الروح وشيعة الأشكال، كي ترى صورتها. باسم هذا الخسران المدجج بالنياشين. هذا الهباء المضفور بالمعنى.. تتناسل الخلائق على مرأى من عينيك، أيها الرسام.. وأنت تشهد موتها وانبعاثها كلّ حين، وترى كيف تومض وتتلاشى، في وهاد القماش. باسم هذا الشحوب.. واسم هذا الشجن.. أغلقُ الدائرة على قلبي.. وأرسمُ.. أرسم.. أرسم”.


فاتن حمودي


المصدر
جيرون