الوطنية



تُعرّف معاجم اللغة (الوطن) بأنه: “مكان إقامة الإنسان، والجمع: أَوْطان. وموطنُ الإنسان: مقرّه ومحلّه، وأرض آبائه وأجداده”.

اشتق مفهوم الوطنية لاحقًا من اصطلاح (الوطن)، وهي تتضمن الانتماء إلى ما يُميّز الأمة في هويتها التي شكلتها بعناصرها المتعددة: الجغرافيا والثقافة والتاريخ، وكافة البنى والمؤسسات والنظم التي ترتكز عليها، والسمات التي تختص بها، اقتصاديًا واجتماعيًا وفكريًا.

تتكون الهوية الوطنية من كل ما له خصوصية بأمة أو دولة، تشكلت تباعًا وأصبحت كبصمة خاصة بها، بما فيها أسلوب عمل مؤسساتها ورايتها وعملتها المتداولة وتراثها المادي والمعنوي، وهي روابط تساهم في زيادة انتماء الأفراد إلى خصوصية أوطانهم، والعمل على تدعيمها وتثبيتها والاعتزاز بها، في كافة المجالات والنشاطات والمحافل المحلية والدولية، لتعزيز حضورها، فتشكل بكلّيتها عاطفة جمعيّة للأفراد والمجموعات والكيانات، تربطهم ببعضهم بروح الانتماء، تحت صفة (وطنية).

الوطنية ليست هوية وانتماء وحسب، بل تفاعل أخذ وعطاء، فالأوطان هي الحصن الذي يحمي المواطنين ويُشعرهم بالأمان، ويعزز كرامتهم، ويرفع شأنهم كي يرفعوا من شأن أوطانهم، ويدافع عن حقوقهم: العمل والتعلم والمسكن والصحة والتنقل والتملك، وغيرها من الحقوق، ويؤمن لهم الحياة الكريمة، ويصونها من خلال نُظمها وقوانينها ومؤسساتها، كي يُشعرهم بفخر الانتماء إلى وطنهم، بصفتهم أهم مكونات قوّته تحت سمة مواطنين، ليمارسوا واجباتهم بدافع وطني تجاهها، ويحافظون عليها بكافة مفرداتها وعناصرها ويعملون لرقيّها، ويقاتلون بحماس من أجل صونها.

إن العمل على تثبيت الهوية الوطنية للمواطنين، وإشعارهم بأهمية المواطنة، من خلال تبادل المنفعة المعنوية والمادية، بين الوطن والمواطن، هو الحلقة التي تربط وتمتّن الأوطان بشكل مستمر غير منقطع. ومع تفكك الإمبراطوريات الكبرى، خلال القرنين المنصرمين؛ بدأت تترسخ مفاهيم الوطنية على نحوٍ أكبر، وهو ما ظهر جليًا في عصر العصبية القومية الذي انتهى إلى عصر تشكيل الهوية الوطنية التي يمكن أن تحمل المعنى ذاته بدولة معينة، كفرنسا أو ألمانيا على سبيل المثال، لكنها تختلف عنها بدولة أخرى، شكلت هويتها الوطنية الخاصة، كالدول العربية، أو الدولة التركية التي تشكلت بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية.

اعتبر البعض أن (الوطنية) أشبه بالعقيدة، وأعطاها بعدًا أيديولوجيًا، وحفز عواطف المواطنين بناء على رؤيته، وكانت السياسة والأدب والشعر أهم الأبواب التي دعمت هذه الحالة، ولكن رآها البعض حالة انتماء عاطفي، تتبع الهوية التي اكتسبها من خلال جنسيته، وأعطته حقوقها. وفي جميع الأحوال، تبقى دوافع الانتماء إلى الوطن والارتباط به هي التي تشكل مفهوم الوطنية.

في سورية -مثلًا- بدأت الهوية الوطنية تتشكل، في الربع الأول من القرن الماضي، وتبدلت بعد منتصف القرن الماضي، بسبب تبدل النظم السياسية؛ فطغت الشعارات القومية على الشعارات الوطنية، وفي الفترة نفسها، انتشرت الشعارات والمفاهيم الأممية التي جاءت مع الأحزاب الشيوعية والاشتراكية، كذلك شعارات الانتماء إلى الأمة الإسلامية، حيث تبنتها مجموعة الحركات السياسية الإسلامية.

استفاد الحكم العسكري الديكتاتوري في سورية، على مدى نحو نصف قرن، من عمله الدؤوب على تحطيم الهوية الوطنية، بمعناها القيمي والمادي معًا، لدى شرائح المجتمع ومكوناته المختلفة، وتمادى نظام الأسد بأن فرض اسمه على كامل البلد ليقترن به، وأفرغ المؤسسات والبنى والنشاطات التي من المفترض أنها تُرسخ وتُدعّم الحالة الوطنية، من مضمونها واستنزفها، وحولتها بنية النظام الأمني إلى مجرد شعارات جوفاء، لا قيمة فعلية لها.

عملت الديكتاتورية على تدعيم سلطتها، على حساب الوطنية السورية والقضايا الخاصة بها، فأدى ذلك إلى انهيار وتفكك الروابط التي تشكل الحالة الوطنية، بين الأفراد والشرائح الاجتماعية وبين الوطن، فجاءت الثورة السورية التي انطلقت بدافع وطني وإنساني، لاستعادة هيبة وكرامة الوطن، من خلال تثبيت هيبة وكرامة المواطن في وطنه، فوجد الإنسان السوري أمامه أن كل المؤسسات التي حملت سمة “الوطنية”، هي مؤسسات قاتلة لحياته، وتمارس كافة مستويات العداء له، من الجيش “الوطني” إلى المشفى والمُسعف “الوطني”، إلى امتلاك الثبوتيات والأوراق التي يكفلها “الوطن” كحق لمواطنيه، كذلك الممتلكات التي تمت استباحتها.

لا شك أن مفهوم الوطنية السورية ما زال بحاجة إلى إعادة ترميم وتدعيم، بين العديد من مكونات وشرائح المجتمع كيانات وأفراد، وهذا يتطلب جهدًا مضنيًا ومكثفًا على مستوى مؤسسات وكيانات وأحزاب وغير ذلك، من خلال العمل الفاعل والإيجابي على صعيد السياسة والثقافة والفكر والتعليم والاقتصاد والقوانين والأنظمة، وإتاحة المجال لنشاط منظمات المجتمع المدني، ليعبّر الإنسان السوري عن ذاته، ويعيد ثقته بوطنه الذي رمى به إلى خيمة، بصفة نازح، أو لاجئ، أو بقي في مدينته، لكنه يقطن في دائرة الرعب.


حافظ قرقوط


المصدر
جيرون