جدلية الحياة والموت في رام الله
30 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2018
يحتضن (غاليري 1) في مدينة رام الله بالضفة الغربية، معرضًا فرديا للفنان التشكيلي الفلسطيني بشار الحروب، بعنوان (الحرب والرغبة) war and desire، في الفترة ما بين 9 كانون الثاني/ يناير الحالي، حتى 28 شباط/ فبراير المقبل.
يقدم (الحروب) في معرضه الفني الجديد، مجموعة من الأعمال التي تشمل المجسمات “النحتية” وأعمالًا متعددة الوسائط كالرسم والمجسمات والفوتوغراف والفيديو، أدرجها جميعها تحت عنوان (الحرب والرغبة)، وهي تحاكي تأرخة العسكرة كلعبة طفولية عديمة البراءة، وتكشف لعبة القوة والعنف المتخيلة بين الفن والمشهد اليومي للحياة الفلسطينية في الوطن المغتصب، كما تسلط الضوء على العلاقة المركبة بين الشهوة والعنف.
في منجزه البصري الراهن الذي يضم مجموعة كاملة من الأعمال التي أنجزها خلال عامي 2016 و2017، وكان قد عرض جزءًا منها في دبي عام 2016 وفي مدينة ليون بفرنسا، يطرح صاحب “اللامكان” بروح المغامر التشكيلي، تساؤلات حول مفهوم الجندي كرمز تقليدي للحرب، في محاولة لتفكيك النمطية السائدة، متناولًا إياها من زاوية اللعب في موازاة ما يجري حقيقة في هذا العالم، وذلك عبر صهر وحدات متكررة تعود جذورها إلى الحرف التقليدية في الثقافات القديمة التي كان لها حضور طبيعي أو “كولونيالي” في فلسطين والوطن العربي.
يرى “قيم المعرض” الأكاديمي والفنان الفلسطيني الدكتور عيسى ديبي، في تقديمه لمشروع الفنان الشاب، في كتيب أُعد للمناسبة، أن “أعمال بشار الحروب بحاجة إلى تأمل مغاير عن النهج العام الذي يحاول أن يبني رواية نمطية للصراع”.
لا مكان للمدنيين على هذه الأرض
فكرة المعرض الرئيسية قائمة على كشف مدى تغلغل فكرة الصراعات والحروب في وجدان الإنسان منذ نشأته، وتحولها مع الوقت إلى مادة للهو لدى الأطفال، وهو ما دعا الفنان الفلسطيني، الحاصل على درجة الماجستير في الفنون المعاصرة من بريطانيا، إلى استخدام ألعاب الأطفال، من جنود وأسلحة بلاستيكية، ليسقطها على واقع جيله الذي فتح عينيه، وهو يعيش تحت الاحتلال الصهيوني. يقول: “عدت إلى طفولتي وماذا كنت ألعب وقارنته مع ما يحدث اليوم في هذا العالم والذي يشبه اللعبة في النهاية، كيف يلعب الأطفال ألعاب الحرب ويقررون من المنتصر ومن المهزوم”.
يحمل مشروع (الحروب) في طياته ترميزًا لمفهوم الديمومة، وانعكاسها على العمل عبر الدائرة التي تشكل مركزية العمل، من حيث دور الجندي في لعبة الحرب كأداة، وكذلك عبر المواد المستخدمة في صناعة الجنود البلاستيكية كمادة نفطية، كانت سببًا في كثير من الحروب.
من بين الأعمال المعروضة عمل من أربعة أجزاء، يسعى (الحروب) من خلاله إلى تقديم حالة من الصراع الداخلي للجندي الذي هو “وقود” أي حرب، فاستخدم قالب ثلج من الفراولة شكل منه مجسم جندي يبدو في حالته الأولى في كامل هيئة زيه العسكري وأسلحته ليبدأ بالذوبان في أربع لوحات فنية تحمل كل منها تعبيرات مختلفة.
كما يبرز من بين الأعمال مجسم (غزو) وهو عبارة عن مجسمات صغيرة لجنود من البرونز يحيطون بالكرة الأرضية، محاولًا من خلاله إيصال فكرة أن لا مكان للمدنيين على هذه الأرض المحاطة بالجنود من كل جهة. وفي مجسم آخر ثمة فم أنثوي وأحمر قانٍ مجسد بالطريقة نفسها، وهناك أيضًا قلب ورأس بل رؤوس.
تقول أسماء الأعمال الكثير عنها؛ ففي (اختفاء) صورة لشخص يمّحي ويتلون بالأحمر، وفي (دُمى) نرى الأرض فارغة تمامًا ويقف عليها جندي واحد مستعد لاجتياحها كلها.
في هذا الفضاء نرى (الحروب) يقوم بترتيب وتوزيع العناصر العسكرية بحسابات رياضية بين الشكل والفراغ، ليكون مجسمًا ثلاثي الأبعاد يذكرنا بشكل مباشر بالمجسمات التزيينية المستعملة في فن الديكور الشعبي، التي تأثرت بشكل كبير بالجماليات المعولمة المصنعة في الصين وتايوان وغيرها من البلدان، والتي تعتمد على القوة البشرية في الصناعات البسيطة والمتطورة.
ومما يلفت نظر زوار المعرض لوحةٌ استعان فيها (الحروب)، الذي لم يعودنا على أن ينتقل من زاوية إلى أخرى فحسب، بل من أسلوب إلى آخر، بـ “فن الأرابيسك”، لتقديم لوحة فنية بشكل دائرة مكونة من الأسلحة والجنود المصنوعين من مادة البلاستيك.
وتظهر في أعماله، بمعرضه الفردي العاشر، مجموعة من اللوحات الفنية المرسومة لجنود في عرض عسكري، خلفية ألوانها تشبه علم قوس قزح. قال عنها: “انسجامًا مع عنوان المعرض (الحرب والرغبة) اخترت علم الرينبو (قوس قزح) لإيضاح أن الحرب لا لون فيها”.
إعادة صياغة اللعبة العسكرية إيروسيا
معرضٌ يقول عنه صاحب (خرائط الذات)، الحائز على الجائزة الأولى في بنيالي الفن الآسيوي الخامس عشر في بنغلادش عام 2012: إنه “تحليلي نقدي يقدم سخرية جادة في طرح جدلية الحرب والرغبة، ليس بعيدًا عن الربط السيكولوجي ما بين القتل و”الآيروتيك”، وكأن ثمة تعبيرًا جنسيًا ما في الحرب، والقتل، وحتى الانتصار”. وهذا هو ما يؤكده د. عيسى ديبي، في قراءته لمجموعة (الحرب والرغبة)، إذ يقول: “يقدم بشار الحروب في هذا المعرض أعمالًا تعيش بالمفهوم المجازي بين العنف والإيروسية كحالة جمالية، تسلط الضوء على العلاقة المركبة بين الشهوة والعنف كعمل حربي رجولي، له أصوله في تأريخ الحرب والانتصار والهزيمة، وبناء على ذلك فهو يؤسس لعلاقة متوترة أيضًا بين المجسم والمشاهد أو المتلقي أو المتعامل مع هذه الأعمال المهجنة، فإذا تأملنا المجسم الذي هو على شكل “صاروخ” مثلًا، إذا اعتبرنا من المشاهدة الأولى أن هذا العمل يذكرنا بالصواريخ، فنرى أن الفنان استعمل اللون “الزهري” أو “الماجنطا” الذي هو رمز الأنوثة والإثارة والرومانسية، ةتمت أدلجته من خلال برنامج تسويقي غربي مع بداية القرن الـ 19 في المملكة المتحدة، وأصبح اليوم متعارفًا عليه كلون نسوي بامتياز”. متسائلًا: “أنعُدّ أن اختيار (الحروب) لهذا اللون والشكل جاء صدفة أم أنه أراد أن يربط بين اللون كرمز اقتصادي جيوسياسي جندري ومع تأريخ الحرب كعمل ذكوري مهيمن، أم أراد أن يقدم صاروخًا “نسويًا؟”. متابعًا: “إذا أردنا أن نقترح هذا من باب الدعابة الجمالية، فهذا السؤال طرحه الفنان في عمله المجسم على شكل قلب رومانسي قام بتلوينه باللون الأحمر الفاقع، فأعاد صياغة اللعبة العسكرية كموضوع مثير للشهوة والإيروسية”. يضيف د. عيسى ديبي بنبرة استفهامية: “ماذا يعني أن نصهر مجموعة من العناصر العسكرية البلاستيكية، في أشكال مستوحاة من الحرب والحب؟”.
يأتينا الجواب على لسان صاحب (الجندي الكوني) الذي حصل في أوقات سابقة على العديد من الإقامات الفنية الدولية في عدد من مدن العالم، والذي يقول: “انطلق مشروعي (الجندي الكوني) من علاقتي وأنا طفل مع الجنود البلاستيكية التي كنت ألهو بها، ليتطور المفهوم (مفهوم الجندي) لدي يومًا إثر يوم.. لقد شكلت لعبة الجندي في طفولتي مساحة مهمة من التعامل مع هذه العناصر، عبر تشكيلها بنماذج مختلفة، وتنظيمها بشكل يتوافق مع حريتي بعيدًا عن تأثري المباشر، بما يحدث في المنطقة كباقي الأطفال، في صناعة الانتصار لفريق من الجنود على الآخر، وكذلك محاولاتي لتقليدهم، وممارسة هذا السلوك في بعض الأوقات في المدرسة أو الشارع. فقد كنت أتعامل معها بنوع من المشهد السينمائي بصريًا، محاولًا تجاوز الفكرة النظرية التي أحملها في رأسي من دروس التاريخ وأحاديث العائلة حول الاحتلال وما يقوم به من أفعال تجاه شعبي الفلسطيني، فأضم (جيشي الخاص) لننتصر على عدونا”. ويردف قائلًا: “منذ تلك الفترة، بدأ مفهوم الجندي يتحول لدي شيئًا فشيئًا، من الجندي الصديق إلى الجندي العدو داخل اللعبة نفسها، إلى أن كانت الصدمة الأخرى بعد اتفاق أوسلو بأن أشاهد الجندي الفلسطيني الحقيقي أيضًا ولأول مرة في العام 1994، فتنكسر الفكرة مرة أخرى، إن هذا الجندي هو الصديق، وحامي الوطن والحدود، وهذا أيضًا من دروس التربية الوطنية. لكن في النتيجة كل ذلك لم يكن إلا نظريًا وأقرب ما يكون للقصص، لم أشاهدها على أرض الواقع، كما في الأفلام الأميركية وما تعلمناه في دروس التاريخ”.
يتابع صاحب (شاشة صامتة) حديثه مؤكدًا أن مشروعه “يحاكي ما يجري في المنطقة العربية حاليًا. كذلك فإن ما جرى ويجري في فلسطين، منذ بدايات القرن الماضي حتى اليوم، كان دافعًا رئيسًا لإنتاج هذا المشروع. الذي أرى فيه نقدًا لمفهوم الجندي كرمز تقليدي، كذلك يفتح النقاش واسعًا أمام فكرة الجيش الوطني”.
هذا وتُعد تجربة (الحروب) الجديدة، بحسب النقاد، محاولة لتوظيف فكرة التركيب البصري أداة جمالية تخدم مشروعه الفني الحداثي، حيث يقدم مجموعة من الأعمال “المُركبة”، مجسمات ثلاثية الأبعاد تؤسس لمشروع بصري تحريضي، يضع المشاهد في صلب السؤال الفلسفي: ما جدوى الفن كعمل ثقافي محرض؟
يُشار إلى أن الفنان الفلسطيني بشار الحروب من مواليد عام 1978، حصل على درجة البكالوريوس في الفنون الجميلة من جامعة النجاح الوطنية في نابلس، ودرجة الماجستير في الفنون المعاصرة من مدرسة وينشستر للفنون. عُرضت أعماله في متاحف ومعارض جماعية في إيطاليا وبريطانيا وتركيا وإسبانيا واليابان والسويد وبلدان أخرى.
وكانت آخر أعماله الفنية مشروع (عودة الشامان) الذي أنجزه وعرضه في تونس العام الماضي، وهو بحث تتبع فيه أثر الأمازيغ، من خلال رمزية ودلالات شخصية “الشامان” في البحث عن أثر السكان الأصليين، وكذلك أثر الاستعمار ودوره في تفكيك ومحو الثقافة الأصلية للمكان.
أوس يعقوب
[sociallocker]
جيرون