“السوريون الأعداء”: الفساد وسلطة الأبد



يعمد فواز حداد، من خلال عتبة القتل في روايته (السوريون الأعداء)، إلى ولوج خفايا التاريخ ودهاليزه، التي طمرت فيها مآس كثيرة، وشمت حياة السوريين المحبوكة بالمؤامرات والدسائس التي برع فيها النظام، لتكون ركيزته الأساسية في الحفاظ على وجوده وبنيته القائمة.. وفي سبيل ذلك كرّس الفساد وزرع الأحقاد بين أبناء البلد الواحد.

(انتزاع حياة الآخر كأحد أشكال الغلبة النهائية، ليس غير القتل فاعلًا ومؤثرًا، لإنهاء صراعات قد تطول، بينما ينبغي إخمادها في أقصر وقت، تغلب على ما ينقصه، وقتل من دون سبب وبلا مبرر تجربة نظيفة من الشبهات والمآرب خالصة لوجه القتل. شكرًا لحماة، أتاحت له هذه التجربة). ص80

إنها رواية عن الدكتاتورية التي تقوض أركان المجتمع بالتدريج، وترصد إزهاق أحلام الإنسان بغد أفضل، في أتون سلطة تسعى إلى تخليد نفسها وإرساء سلطة الأبد، وفي سبيل ذلك تتوكأ على الفساد، وتهش بعصاها كل من تسوّل له نفسه التفكير بها، وذلك من خلال ثلاثة خطوط تسير بشكل متواز:

الخط الأول: الضابط المجرم (سليمان)، والذي يبدو أن الكاتب قد تعمّد تكثيف كل الشخصيات الموجودة في فلك النظام في شخصيته. بدأ تدرّجه في مسالك السلطة الوعرة بالوشاية بخاله البعثيّ الذي أبدى تذمّرًا من انحراف الحزب عن أهدافه الأساسية، وبذلك حجز سليمان مقعدًا له في ركاب السلطة، ليمضي بعيدًا في طموحاته التي تبدو بلا حد.

الخط الثاني: القاضي (سليم الراجي) الذي يمثّل محاولة يائسة بإصلاح ما يمكن إصلاحه في دولة نخر الفساد مفاصلها الأساسية، وبخاصة القضاء الذي يمثل الوجه الحقيقي لأي دولة تدعي المدنية، وتسلّطت عليه أجهزة الأمن والمخابرات؛ ليكتشف القاضي في النهاية أنه مجرد ضحية وأداة طيّعة استخدمها (سليمان) لصوغ ملفات فساد لبعض الأشخاص الذين فتح لهم النظام أبواب الفساد على مصراعيها، كي تكون هذه الملفات سيفًا يصلّت على رقابهم، في حال سوّلت لهم أنفسهم التفكير بلعب دور سياسي في المستقبل، وهذه الملفات وضعت في مكان آمن بانتظار الزمان والمكان المناسبين، لتخرج إلى العلن.

الخط الثالث: الطبيب (عدنان الراجي) الذي قتل الضابط سليمان عائلته، في معرض اختبار قدرته على القتل المجاني واستثناه من الموت مؤقتًا ليرسله إلى إعدام مؤكد، إلا أن الأقدار تضع (المساعد ضرغام)، في طريق الطبيب الذي عالج أطفاله بالمجان يومًا، فقرر المساعد بعد تردد طويل أن ينقذ الطبيب من الإعدام، ساعده في ذلك خلاف وقع بين أجهزة الأمن وقطعات الجيش وسرايا الدفاع، وبذلك تتوقف عمليات الإعدام ويرسل المحكومون إلى أقبية فروع المخابرات في دمشق ومنها إلى تدمر، ليواجهوا مصيرًا أسوأ من الموت.

في المحور الأول من الرواية والذي يتكوّن من ثلاثة عشر مشهدًا، كل مشهد عبارة عن عدة وحدات تعبّر عن الصراع الذي تخوضه السلطة التي تتوق إلى تخليد نفسها عبر القتل لمحكوميها؛ لأنها تعلم أن ديمومتها لا تكون إلا بقتل الآخر.

القاضي الذي قاد المحور الأول من الرواية (بلاد الخلود والموت) شعر بخيبة الأمل واللاجدوى: (ومهما كان ما جرى وما قمت به؛ فقد أصابني بالأسى، صورة البلد انكشفت في العمق، كانت ممزقة تتقاسمها إقطاعيات متناحرة تسعى للاستيلاء على كل ما يدر مالًا، لقد حافظنا على ديمومتها وحسن دورانها، كنا نعمل ضمن الشبكة الكبرى للفساد، وساعدنا على ترسيخ ما نحن ضده) ص355.

بين قاتل مخبر وقاضٍ مغرّر به وطبيب ربما مدّ يدَ العونِ للإرهابيين، تمضي الرواية وتدخلنا في عمق المأساة السورية الممتدة بين مجزرة حماة في ثمانينيات القرن الماضي، والمجزرة الحالية المستمرة كاشفة عمق الهوة التي انحدر إليها السوريون، حفرة تبدو بلا قرار، عمّقها نظام جاء بخلفية طائفية وحقد طبقي، ليحوّل البلاد إلى مزرعة للفساد أطلق فيها يد عملائه ومناصريه، لينثروا فيها بذور فسادهم ويمارسوا هوايتهم في القتل؛ وبذلك يظهر الفساد كعلامة فارقة تميّز “سورية الحديثة”، التي يتشدّق النظام بأن حافظ الأسد بانيها، وهي في الحقيقة ليست سوى مافيات وتجار وفاسدين وصوليين ورجال استخبارات.

حتّى الوسط الثقافي تسرّب إليه الفساد، وبدأ المثقفون يخوضون حروب السلطة الثقافية، فمن المؤسف، كما يقول (فواز حداد)، على لسان إحدى شخصياته، أن تكون أقدار سورية رهينة هذه المنظومة الفاسدة التي جعلت الفساد أداة للسيطرة، وتكريس فكرة القائد الملهم الذي لا بديل له. وهذه الفكرة ابتدعها المجرم سليمان، بعد أن منحه الرئيس لقب المهندس، إذ يرى القائد الفذّ: (أن القدرات الهندسية للطالب الجامعي النجيب تبدّت أكثر ما يكون في إقامة مشاريع في الهواء تعتمد على الحدس يحوّلها إلى حقيقة صلبة على الأرض، تسهم في التدمير أكثر من البناء) ص147.

ولهذا السبب منحه الرئيس منصبًا بلا ملامح، وترك له الحرية في تحديد ماهية هذا المنصب، وهكذا يبدأ سليمان بهندسة منصبه وتتعدد مهامه، من إقامة جهاز أمني خاص يشرف على مراقبة الأجهزة الأخرى، والعمل في الوقت نفسه على تحويل الرئيس من الأخ القائد إلى القائد الخالد، وكانت البداية بصور ضخمة تسدل على مبان حكومية شاهقة، ليشعر الشعب أن الرئيس بمرمى أبصارهم يرعاهم من عليائه، ويطمئنهم أن “سورية بخير”. والتماثيل والاحتفالات التي تمجد الانتصارات التي هي بالحقيقة هزائم يندى لها الجبين وخيانات وغدر برفاق النضال.

لقد رصد الكاتب ببراعة روائية مدهشة تفاصيل تغوّل هذا النظام الذي اختُصر بعائلة، اغتصبت السلطة وصادرت أحلام السوريين وارتكبت فيهم المجزرة تلو المجزرة، وكيف تم بالتدريج غرس فكرة القائد الخالد وسلطة الأبد، من خلال نماذج وضيعة كسليمان المنبوذ من قبل والديه، والذي كان همه الأوحد أن يلتحق بركب السلطة ويلتصق بها، وفي سبيلها قام بكل الدناءات التي تحقق له غايته.

ومن بين هذه الخطوط الثلاثة المتوازية تمتد خيوط أخرى لشخصيات متنوعة، تمثل نماذج لبقية الأطياف الاجتماعية التي نشأت في ظل النظام، وخرجت من عباءته كـ (لميس) الطبيبة المظليّة التي كبرت تحت رعاية المهندس، وأصبحت مع الزمن صورة طبق الأصل عنه، هو في القصر الجمهوري، وهي امتداد له في عالم المال والتهريب، بعد أن جمعته بها علاقة حب كادت أن تتحول إلى زواج؛ إلا أن اكتشافه لأصولها غير الدمشقية، وأكاذيبها بشأن دراستها، أطاح الفكرة وجعله يرتبط بها بعلاقة جسدية ومصالح متبادلة، فهي في النهاية ليست من تلك الطائفة التي يحلم بالزواج منها، ليهين في شخصها الطبقة البرجوازية الدمشقية.

تبرر لميس فسادها: (إذا كنت خدعتك، فلأنكم لم تتركوا لنا وسيلة أخرى لنعيش، وبدلًا من أن أرثي حظي أردت أن أجد لي مكانًا) ص244.

يشير الكاتب هنا بكل جرأة إلى الطائفية التي أوجدها النظام، وقد بدأت جذورها بحساسية تميز بها الوافدون إلى دمشق، حيث كان همهم الأوحد إهانة الدمشقيين المغلوبين على أمرهم، وكيف تطورت هذه الحساسية إلى صناعة للطائفية كوسيلة للتحكم والتسلط ليظهر في المستقبل أي صراع على الحكم صراع طائفي.

وهنا يظهر الوجه الحقيقي للنظام الذي لم يستثن طائفته من استثماراته، وزج بها في حروب داخلية مستغلًا حاجتها إلى العمل وفقرها المدقع، فقام سليمان باستقدام أبناء قريته ليوظفهم في الجيش، وبذلك يكونوا سدًا منيعًا للنظام في وجه طوفان كانوا يعلمون أنه سيأتي. يقول غالب تلك الشخصية المثقفة، عندما بدأت الاحتجاجات وارتفعت الأصوات مطالبة برحيل النظام: (لماذا نتنازل لهم عن السلطة؟ لم نحصل على ما حصلنا عليه إلا من خلالها، إذا كنا لصوصًا فهم لصوص أيضًا، وأي بديل سيكون الأسوأ، القادمون لن يوفروا الطائفة من الانتقام) ص445.

هذه هي طريقة تفكير المثقف في “سورية الأسد” الذي لم يعدم المبررات لإسباغ الشرعية على القتل والمجازر، مما جّر البلاد إلى أفق مسدود، فإما أن تكون القاتل أو القتيل.

في القسم الثاني من الرواية (حياة جديدة) يقود الطبيب عدنان أحداث الرواية؛ إذ يخرج من السجن ليشارك الناس مصايرهم، لأن السنوات التي قضاها في السجن تبيح له ذلك، وعليه الآن أن يمارس الدور الذي فاته في حماة، حيث دفع ثمنه مسبقًا.

حين يلتقي الطبيب بالمهندس في بيت أخيه القاضي؛ يوقن الطبيب أن هذا الشخص هو من قتل عائلته، وعندما تمكّن منه وسنحت له فرصة قتله؛ تخلّى عن الفكرة، لأن قتله وحده لن يعادل موتهم، وإذا قبل بهذا القصاص؛ فستقتصر العدالة على الثأر والانتقام، وهو لن يرضى إلا بتدمير الدولة الظالمة ومحوها من الوجود.

وهكذا يفلت المهندس من الموت موقتًا، ليقدم بعض الخدمات التي تسهم في إطالة عمر نظام الابن، ولو إلى حين، إلا أنه يرغم على الانتحار بعد توّرطه بتهديد شفوي مفاده أنه سيقدم على قتل الرئيس في حال نفذ وعوده الإصلاحية.

يُمنَح مسدسًا كي ينتحر، وفي تلك اللحظات الأخيرة العائمة بين الحياة والموت، يتمنى أن يكون الرضيع الذي نجا من مجزرته الصغيرة قد كبر، وأن يشكل خطرًا على نظام لا يعفو عن المخلصين له يقول: (هذه البلاد لا يؤسف عليها، لن يبقى حجر فوق حجر يعرفهم أليس واحدًا منهم)؟! بلى هو واحد منهم بل نستطيع القول إنه كبيرهم الذي علّمهم السحر، ومن ثم ارتد السحر على الساحر، فحفر قبره بيديه ليدفن بصمت ودون أيّ ضوضاء، بعد حياة حافلة بالمكائد والدسائس ظنّ أنها ستمهّد له الطريق إلى الخلود. (لم يظفر بالمجد، الخلود لغيره والموت له). ص472.


فوز الفارس


المصدر
جيرون