رفض المشاركة بسوتشي كان صحيحًا



حين رفضنا المشاركة بسوتشي، وقبله حميميم، كانت الضبابية الروسية المقصودة والمغلفة بعنجهية غير مقبولة، وبمشاعر النصر على الثورة، هي العنوان والمدخل، فكان الائتلاف سباقًا في إعلان موقفه الذي أكده في دورة الهيئة العامة الـ 37.

من العناوين إلى التفاصيل، ومن الأهداف المعلنة إلى قابلية الروس لتغييرها، كان السؤال المحوري: ماذا يريد الروس من سوتشي بالتحديد؟ وما هي سقوفهم، وحدود “تنازلهم”؟.

في البداية، كشفوا عن تفكير خطير، حينما أطلقوا عليه اسم “مؤتمر الشعوب السورية”، بما يخفي كامنًا لديهم للتعامل مع الشعب السوري، كمجموعة شعوب، بما يحمله ذلك من دلالات، ثم بدلوا العنوان بعد أن “حاورهم” البعض من السوريين.

في البداية أيضًا، كانوا يريدون الاستفراد واحتواء الحالة السورية بديلًا عن جنيف ومساره، وعن قرارات الشرعية الدولية التي كانوا مساهمين فيها، بل عن إرادة السوريين، واستمروا زمنًا في إصرارهم؛ ثم أخذوا بالتراجع أمام ضغط وطلبات تركية تخصّ نوعية المشاركين، وقوائم الأسماء، والحصص، والدعوات، وصولًا إلى تغيير بعض العناوين، وأهمها إلحاق مخرجات سوتشي بمسار جنيف، وبرعاية الأمم المتحدة.

حين واجهوا إصرارًا شبه جماعي من المعارضة الحقيقية في الائتلاف وهيئة المفاوضات العليا؛ راحوا يعلنون استعدادهم للحوار والتغيير، وقابليتهم للاستجابة الشفهية لكل الطلبات التي قدمها وفدُ هيئة المفاوضات في موسكو، ثم في فيينا، ومنها:

– أن تكون الأمم المتحدة هي المرجعية والراعية.

– أن يبقى جنيف هو المسار الرئيس للمفاوضات والحل السياسي، وأن توضع مخرجات سوتشي تحت تصرف الأمم المتحدة.

– رفض تجهيز أي دستور والبصم عليه من قبل المشاركين، وعدم القبول بأن يشكل المؤتمر لجنة دستورية لصياغة الدستور، وترشيح أسماء وفق حصص واضحة، ومن شخصيات حقوقية ومختصة بالقانون الدستوري وتقديمها للأمم المتحدة، لتختار من بينها لجنة خاصة مكونة من المعارضة والنظام وأصحاب الاختصاص بطريقة متساوية.

– رفض تشكيل لجان، أو اختيار ما كانوا يطرحون بترشيح 150 شخصية تكون كبحيرة -وفق تعبيرهم- لاختيار عناصر منها لهيئات كانوا يقترحونها.

– استعدادهم لتغيير “لوغو” وشعارات المؤتمر، ووضع علم الثورة إلى جانب علم النظام، وإزالة جميع الشعارات المستفزة التي نشرت في المطار، وعلى طريق مرور المشاركين.

– الموافقة على أن المعارضة هي حصرًا وفد هيئة المفاوضات، وعدم وجود معارضات أخرى في الداخل السوري أو غيره، بعد أن أوردوا في بيانهم الختامي الذي انتشر أيامًا قبل المؤتمر ما يعرف بـ “هيئات وأطراف المعارضة”.

– إعلان الاستعداد، وبحضور الوفد التركي، للتعامل الإيجابي مع جميع المطالب التي تطرحها هيئة المفاوضات، والتوافق مع الأمم المتحدة على الحضور، والرعاية، ووضع المخرجات تحت تصرفها، كتمهيد لمفاوضات جنيف.

يجب أن نسجل بداية أن الوفد الروسي في فيينا رفض منح وفد المعارضة أو الأمم المتحدة أي وثيقة مكتوبة، تثبت تلك الاتفاقات، وما أعلنوه من قبول، مكتفين بالردود الشفهية، ومصرّين عليها، وهو الأمر الذي كان يعطي الشكوك بنيّات الروس مزيدًا من العوامل الجدّية، ومزيدًا من الخوف من تراجعهم ونكوصهم عن أي كلام شفهي ووعود قطعوها، وهو ما ظهر جليًا في سوتشي، حين وصلت وفود القابلين بالمشاركة، واصطدموا بحقائق مخالفة للوعود، وأولها بقاء “اللوغو” والشعارات، وعَلم النظام المنفرد، ثم مجموعة المشاريع التي طرحوها عن تشكيل عدد من اللجان والهيئات، وقد بلغت خمسة، وتسمية مندوبين بعدد 150، وطريقة اختيار “هيئة الرئاسة”، بما جعل الوسيط دي ميستورا يحتج، ويرفض حضور جلسة الافتتاح، ثم إقناعه بالحضور بعد تعديل تلك النقاط؛ وهو ما جعل الوفد التركي يحتج مسجلًا عددًا من النقاط التي تتجاوز ما اتفق عليه، وبما يتجاوز وجود الإرهابي “معراج أورال”، إلى طريقة التعامل مع بعض وفد المعارضة القادم من شمال حلب، وعدم حلّ الإشكال معه، وأيضًا محاولات الروس تغيير نقاط البرنامج، وكان واضحًا أن تخفيض التمثيل التركي رسالة بليغة، بينما أدّت تصرفات الروس إلى احتجاج عدد من الوفود المحسوبة على المعارضة، كمنصة موسكو، وتيار الغد برئاسة أحمد الجربا وآخرين، انسحبوا من الجلسة ولم يعودوا إلا بعد مفاوضات معهم لإرضائهم.

أما مستوى الحضور، ونسبة القادمين من دمشق، ونوعياتهم، وما يمثلون، خصوصًا أولئك “المتهمون زورًا” بأنهم معارضة، والذين جاؤوا في حقائب النظام، واختيروا من قبل أجهزته الأمنية، فكان مسخرة حقيقية، وطغيانًا صارخًا لأهل النظام وأزلامه، وعلى رأسهم المنافق الشهير “صفوان قدسي” الذي نصّبوه رئيسًا لوفد النظام.. فكان الافتتاح مهزلة فعلًا، وفشلًا دامغًا لروسيا وما هدفت إليه.

كان يلفت انتباهي، على مدار أشهر مسلسل اللقاء وتأجيله، وما يعتبر تراجعات روسية متتالية ومفتوحة على مصاريعها حقيقة الموقف الروسي، والهدف من عقد لقاء سوتشي والإصرار على إنجازه.. حيث ظهروا مبلبلين، مربكين، همّهم الأول أن يُعقد اللقاء، وهو ما يكشف إما تكتيكهم المراوغ بوضع مشهّيات لإحضار المعارضة، ضمن أجواء تعلن الاستعداد للحوار في كل المسائل الخلافية، مع استعدادهم للتنازل، وبالتالي التعامل مع المشاركين من منطلق الأمر الواقع، ولو انسحب بعضهم، وإما أن المشروع الروسي متزعزع وليس مستقرًا، بدليل تلك التغيرات التي تتالت وتكثفت في الأيام الأخيرة.

هل المؤتمر بذاته هو الغاية توظيفًا في مسائل أخرى؟ روسية، وعلى صعيد دور روسيا الخارجي، وإمكانية المقايضة في أمور أخرى مع الولايات المتحدة الأميركية؟

وعلى سبيل التوضيح: لماذا لم تكن المواقف الروسية مستقرة، وواضحة منذ البداية، فلا تحتاج إلى هذا الكم من المناورات والتبديل، ثم العودة من جديد إلى بعض الأفكار، ثم الانقلاب عليها بوعود مخالفة، حيث يفترض بدولة كبرى أعدت من أشهر طويلة لهذا المؤتمر أن تكون أهدافه واضحة، وبرنامج عمله ثابتًا، وأن تتضح العلاقة مع الأمم المتحدة منذ البداية، وليس في الساعات الأخيرة، ومثل ذلك مع تركيا، ومع قوى المعارضة.

لا شكّ، دون أي مبالغة، أن المؤتمر فشل شكلًا ومضمونًا، ولم تحقق روسيا أهدافها، على العكس هو لطمة كبيرة لهم، لعلها تكون إيجابية في تخفيض منسوب العنجهية الروسية، وفي احترام قوى المعارضة التي أثبتت أنها رقم صعب في المعادلة، وأنها قادرة على اتخاذ المواقف الوطنية، رغم كل الضغوط التي تلقتها من جهات متعددة، وأنه لا يمكن لأي حل سياسي أن يتمّ في غيابها، أو رفضها له.

يجب أن يعيد الروس حساباتهم، وأن يراجعوا نهجهم المتغطرس، وتعاملهم مع المعارضة من موقع المنتصر والمهزوم، أو نهج التهديد السخيف والسوقي، عبر تلك التصريحات التي كانوا يطلقونها ويهددون بها، وأن يتعاملوا مع المعارضة من موقع القناعة بالبحث في جوهر عوامل المأساة السورية التي كان نظام الجريمة والفئوية حاضنها، وفاعلها الرئيس لبناء تفاهمات قائمة على المصالح المشتركة، وعلى جوهر الحل السياسي الذي لن ينجح إلا بـ “تكنيس” هذا النظام، والشروع في العملية الانتقالية التي تؤسس لبناء النظام البديل.

لا شكّ أن دروسًا كبيرة تلقيها سوتشي على الجميع، بخاصة قوى المعارضة وفعاليات الثورة، تقتضي أخذها بالاعتبار والاستفادة منها في صياغة برنامج عمل المرحلة، وفي الإلحاح على مفاعيل استعادة القرار الوطني.


عقاب يحيى


المصدر
جيرون