صحيفة التقويم التركية: الخطوة التركية



 

تركيا، بدخولها عفرين، أفسدت اللعبة التي كانت الولايات المتحدة الأميركية تعمل على حياكة خيوطها منذ العام 1990. ولا بد أن هناك من يذكر! أن أشرف بيتليس باشا [رئيس الأركان التركي الأسبق] كان قد قدَّم لصدام حسين عرضًا محتواه: “لنعمل نحن من الجبهة العليا، وأنتم من الجبهة الدنيا، ولنضع PKK بين فكي كماشة؛ للقضاء عليه والانتهاء منه”. كان ذلك عرضًا على قدر كبير من الأهمية، لكنّ أشرف بيتليس لم يتمكن من إنجاز هذا العمل؛ إذ إن حياته لم تكن كافية لإتمام ذلك. أُسقِطَت طائرته.

ومهما بدا أن الكثير من الهجمات كانت بإمضاء PKK، فإن خفايا الأمور كانت تُشير إلى وقوف عناصر الاستخبارات خلفها. كان هؤلاء موجودون في كل التحركات والحملات الحرجة، والآن نراهم رسميًا ضمن عناصر YPG، وهذا الوضع كان سابقًا هكذا، ولكن لم نكن نستطيع إيضاحه. أميركا كانت تريد وضع يدها على الشرق الأوسط، عن طريق استمالة الأكراد إلى جانبها. فهي تعمل اليوم -كما كانت تعمل في الأمس- على جمع كل الفصائل الكردية تحت مظلة واحدة. هذه هي سياستهم، لم ولن يتخلوا عنها… لا يهمهم من هو الرئيس! ولكن أنقرة تنبهت إلى ذلك؛ ودخلت سورية متخطية الحدود. والظاهر أن الجيش التركي سيجري عملية تمشيط وتطهير إلى أن يتم القضاء على YPG تمامًا، وهذا ما لم تكن واشنطن تتوقعه، لقد أدركوا معنى الحرب في المنطقة وكالةً، ورأوا كيف يجري تصفية الكيان الذي قاموا بتنشئته بأيديهم… أعتقد أنها كانت عملية الشمس. كان العام 2008.

تحدث وزير الدفاع الأميركي من أستراليا قائلًا: إن “أخرجوا” فخرجنا، وبوش بالشكل نفسه… أما الآن، فهم يتلفون أنفسهم، ولكن لا يوجد من يصغي. من أين إلى أين… ولكن، حسنًا، لمَ تُقدِم تركيا على عملية حيوية ومصيرية كهذه؟ ما الذي كان يحدث في أميركا؟ لنذهب إلى هناك ونقف على ما يحدث، لنفهم ما يجري ولنكوّن فكرة عما يجري من تحركات هنا.

أذكر أنني كتبت مرارًا عن العداء (الشجار) الحاصل بين ترامب والبنتاغون، ولكن هذا الشجار بدأ ينزلق يومًا بعد يوم باتجاه النتيجة التي يريدها البنتاغون، وكأن ترامب قد أُحيط وحوصر من أربع جهات! فالدولة تحاصر رئيسها، الأمر غريب ولكنه حقيقة… فصراع القوة بين ترامب والبنتاغون بلغ ذروته في المسألة الإيرانية، فـ (آيباك) طالبت واشنطن بتوجيه ضربة لإيران. آيباك ((AIPAC من كانت تدعم؟! كانت تدعم الصهر كوشنير… هذا الكيان يريد حربًا. ترامب بدوره وضع الخطة التي تجر البنتاغون إلى الحرب مع إيران، في موضع التنفيذ. رئيس طاولة العمليات الأميركية الخاصة بإيران مايكل دي أندريا كان في وسط الانتفاضة التي انطلقت في أواخر العام 2017 في إيران، وكان بومبيو يؤيده أيضًا؛ لأن البنتاغون كان يرغب في التدخل في إيران أيضًا، ولكن كان هناك فارق بسيط! هو أن البنتاغون كان يرغب في التدخل بتحريك المجموعات الكردية الإيرانية. وترامب كان يعارض ذلك.

كان العسكر سيتدخل في الموقف، بعد نزول الأكراد إلى الشارع، وإحداث فوضى داخلية في البلاد! أي استخدام الورقة الكردية! كانوا متفقين فيما بينهم… اعتقد ترامب أنه إذا نفذ خطته فإن البنتاغون لن يبقى صامتًا. مارس ضغوطاته. وكانت هذه هي النقطة التي أخطأ فيها! البنتاغون لم يكن يريد حمل الديمقراطية إلى إيران، عبر الطريق الذي فتحه ترامب. كانت له أسبابه المحقة في هذه المرحلة…لأن البنتاغون كان يدرك أن أي تدخل مباشر في إيران يعني تعريض حياة الجنود الأميركيين الموجودين في سورية إلى الخطر، نظرًا إلى تواجد ما يقارب من 25 ألفَ جنديِّ إيراني بالقرب من القواعد العسكرية الأميركية في سورية، يقومون بالمراقبة تحت عباءة النظام، لذا كانت هذه مخاطرة كبيرة، لم يكونوا يرغبون في الإقدام عليها. فلو قام البنتاغون بتدخل ما؛ لكان من الممكن أن تقع القواعد العسكرية الأميركية فجأة في حلقة من نار، فحدث في إيران ما أراده البنتاغون. بأوامر من البنتاغون؛ رفع PJAK (حزب الحياة الكردستاني) الإيراني الموجود بالقرب من طهران، يدَه عن الزناد وانسحب. وكان ترامب قد قال في بدايات العام 2018 لـ (آيباك) إنه سيضرب إيران… لكنه الآن يعاني من مشكلات هناك أيضًا! كما أن البنتاغون أظهر عبر تصريحاته التزامه الصمت حيال بروفة (تجربة) الانتفاضة في إيران. لكن في كل قضيةٍ مرتبطة بالمخططات الأميركية تُسمع تصريحات عن البنتاغون. فلا بد لهم قطعًا أن يتحدثوا! وأخيرًا انظروا إلى حملاتهم التي أعقبت التدخل التركي في عفرين، فقد صدرت تصريحات عما يقارب من 40 شخصية مقربة من البنتاغون! فالذين اتخذوا الصمت منهجًا تجاه ما يجري في إيران، تحولوا إلى “بلابل” عندما تعلق الأمر بتركيا. بمعنى… أن البنتاغون أرسل رسائل إلى ترامب، مفادها التركيز عل تركيا وليس على إيران. ولو أسعفتكم الذاكرة، فإن ستيڤ بانون كان قد قال قبل مدة إن تركيا أخطر من إيران. المعادلة نفسها.. ترامب لم يقبل بهذا الطرح قائلًا: “إن تركيا ليست من أولوياتي”. واصلًا فإن الدولة الوحيدة التي لم تتكلم ضد ترامب، هي تركيا يجب عدم نسيان ذلك. ولربما أن الدول 192 من أصل 193 من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، كانت قد تعرضت لانتقادات ترامب. غير أنه يدرك تمامًا أن أي مسالة يمكن أن تحدث مع تركيا ستنهي السياسة الإيرانية والسياسة الشرق أوسطية أيضًا، فـ (آيباك) (AIPAC) التي وقفت وجهًا لوجه ضد تركيا في قضية القدس. اضطرت إلى تفضيل الصمت والتراجع إلى الصفوف الخلفية.

يعتقد ترامب -ولو لم يرغب البنتاغون بذلك- أن التوازن الأميركي-الروسي-التركي سيُخلَّص العالم، ولكن الدولة العميقة لا تفكر بالذي يفكر فيه! وهذا تعارض وخلاف. فالبنتاغون يدير ظهره للشراكة الاستراتيجية (التي أصبحت من الماضي) مع تركيا، ويبدي ذلك في كل حديث له، ومع الأسف سيضطر ترامب إلى سلوك هذا المسار، لأنه لم يبق له خيار آخر، فطاقته تنفد و(جهاز شحنه في البنتاغون). هو محقُّ ولكنه تحت ضغط وهجوم! البنتاغون الذي عمل في إيران ما يريد فعله، يحاول بلوغ النتيجة عبر YPG بالرغم من ترامب.  وستكون روسيا هي الخاسر الأكبر في المنطقة؛ إذا ما تحققت خطوة كهذه، يُجْرون حساباتهم لكي يلفظوا الروس وYPG معًا من المنطقة، إلا أن الروس شاهدوا ذلك وتنبهوا له، ووقفوا دائمًا بجانبنا، في مواجهة أميركا في كل مرة تُعلِي فيها تركيا صوتها! وهي مضطرة إلى ذلك بطبيعة الحال. روسيا صفَّقت للعملية العسكرية التي أطلقتها تركيا في عفرين، لأنها تدرك أنّ النصر القادم سينقذها، وإلا؛ فستتجه إلى واشنطن إذا ما حدث عكس ذلك، الأمر الذي سيضع الكرملين في موقف صعب وحرج! فالجيش التركي بسلوكه طريق عفرين يكون قد أنقذ مستقبل تركيا من جهة، ومستقبل كل من روسيا والمنطقة من جهة أخرى. ولكن ألم يكن هناك أطراف ممتعضين؟ بالطبع كان! فرنسا وألمانيا، فهم يتمنَّون أن تُمنى تركيا بخسائر كبيرة وثقيلة في المنطقة. فرنسا بدأت بدعم YPG عبر SDG وبالشكل نفسه، فإن الدعم الذي تقدمه ألمانيا أيضًا جلي وواضح للعيان! وإن مجرد قولها لتركيا: “لا يمكنكم استخدام دباباتنا” دليل واضح على الدعم الذي تقدمه لـ YPG. فتركيا لم تشترِ هذه الدبابات لاستخدامها على خشبة المسرح. أنقرة وضحت ذلك، بصوت عالٍ: العملية العسكرية التركية في عفرين ستكون البداية، وهذا واضح وصريح. واحتمال دخول العديد من الدول في حرب إقليمية بات بعد الآن احتمالًا كبيرًا، فالربيع العربي حوَّل منطقة الشرق الأوسط إلى قضية شائكة يصعب حلها، والآن فإن دول كالولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا والتي لم تستطع نيل ما كانت تتمنى من هذا الربيع، ستسعى للسيطرة على الشرق الأوسط مجددًا. أما بريطانيا فهي الدولة التي لا يمكن لها أن تخسر في الشرق الأوسط أبدًا؛ لأنها تلعب دائمًا على ورقتين ولا بدّ لإحداها أن تربح، بمعنى أن العقل هو من يتكلم ويكسب!

في اللحظة التي تتمكن فيها تركيا من تطهير سورية من YPG، ستكون أميركا هي الخاسرة… فالتطهير الذي سيتم في سورية سيعني خسارة الولايات المتحدة للعراق أيضًا، فإذا ما خسرت الولايات المتحدة في سورية والعراق؛ فستبدأ بمكابدةِ ضائقةٍ في نيويورك. لن تستطيع البقاء مطمئنة! هذا مستحيل؛ فالتطورات الحاصلة في سورية والعراق الآن، باتت تُسمَع في نيويورك ولندن وبكين أيضًا. فكل خطوة تخطوها تركيا تهز العالم وتزلزله! ولهذا السبب، فإن كل دولة تسلك طريقًا يتلاءم ومخططاتها. وبطبيعة الحال، فإن القوة هنا تحمل أهمية كبرى، ولكن العقل أكثر أهمية. أما تركيا فتسير بالقوة والعقلانية معًا، ولهذا لا أحد يستطيع أو سيستطيع إيقافها.

في الولايات المتحدة الآن، كيانان مختلفان يريدان عالمين مختلفين، يسيران ويتصارعان بنموذجين مختلفين. تركيا استغلت التصدع الحاصل هناك، تدخلت وهي ما تزال تمضي قدمًا، فالذي يمشي هو من يضع قواعد اللعبة التي كانت بالأمس أميركا، لكن اليوم هي تركيا، والغريب في الأمر أننا كلما استعرضنا قوتنا؛ وجدنا أصوات من يسعى لصنع اللعبة قد خفتت، وإذا ما استمر الحال على هذا النحو؛ فسنجد هذه الأصوات قريبًا قد انقطعت تمامًا.

طبعًا سيعملون ما بوسعهم لصنع الحيل والألاعيب غير أن كل محاولاتهم ستُسحَق تحت وطأة الخطى التركية، ويكفي أن نكون نحن يدًا واحدة.

عنوان المقالة Türk adımı اسم الكاتب أرجون ديلر المصدر وتاريخ النشر صحيفة التقويم التركية، 27-01-2018 رابط المقالة https://m.takvim.com.tr/yazarlar/ergundiler/2018/01/27/turk-adimi/amp عدد الكلمات 1038 المترجم علي كمخ

 


علي كمخ


المصدر
جيرون