من لا يعرفها يظنها فلسطينية
31 كانون الثاني (يناير - جانفي)، 2018
الإيطالية إيلينا كيتي، الحائزة على الدكتوراه، والباحثة في جامعة أوسلو، والمدرِّسة في ماجستير الترجمة الأدبية من العربية إلى الإيطالية، في المدرسة العليا للمترجمين في فيتشينزا، وفي الوقت نفسه هي مترجمة تتقن العربية، حديثًا وقراءة وكتابة. تتوزّع اهتماماتها في الثقافة العربية بين الأدب والتاريخ، من أجل تحليل بناء الهوية وإشكالية الانتماء في فترات مضطربة، مثل نهاية العصر العثماني، أو وقتنا الحاضر، بعد الثورات العربية.
من بين ترجماتها إلى الإيطالية، في النثر والشعر، نذكر: (ميرامار) لنجيب محفوظ 2009، و(لها مرايا) لسمر يزبك 2011، و(الحرب تعمل بجد) لدنيا ميخائيل 2011، وأخيرًا (حمامة مطلقة الجناحين) 2016 و(مرايا الغياب) 2017 وكلاهما لفرج بيرقدار.
سألتها (جيرون) بالعربية وأجابت إيلينا، بالعربية مباشرة من دون أي وسائط.
– إيلينا، متى بدأ اهتمامك بالشعر أو الآداب عمومًا، وباللغة العربية خصوصًا، وما هي الأسباب والدوافع؟
= منذ الطفولة، أحببت القراءة والكتب. في بيت أهلي اكتشفت كتب الشاعر الإيطالي جوسيبي أونغاريتي، وهو أول شاعر قرأته عندما تعلمت القراءة. في بيوت أجدادي التي كبرت فيها، لم تكن الكتب عديدة. لم يدرس أجدادي إلى مراحل دراسية عالية أو متقدمة، أيام الحرب العالمية الثانية، لكن احترامهم للكتب كان عميقًا. أما الأدب العربي، فقد اكتشفته تدريجيًا. وأنا أدرس العربية، ركَّزت في البداية على الشعر من أجل التعلُّم: كان أسهل علي أن أتذكر الكلمات الجديدة في إطار الأبيات الشعرية، فالإيقاع كان يساعد الذاكرة. وصلت إلى الرواية بعد سنوات.
– لا بدّ أنك مررتِ بمراحل متعددة في تعلُّم العربية. ليتك تعطين القارئ العربي فكرة عن تلك المراحل، وما هي المرحلة الحاسمة في تمكُّنكِ من العربية؟
= تعلُّم اللغات ممتع؛ لأنه مكوَّن من عدة عناصر متشابكة، ليس فقط من مراحل متتالية. العربية فتحت لي كونًا جديدًا. في البداية كنت أمّية فيها، على الإطلاق. لقد فهمت، فهمًا أعمق، صعوبات أجدادي في إتقان القراءة والكتابة بالإيطالية. أنا أيضًا، بالعربية، كنت أجهل الأبجدية. خلال أول سنتين درست الفصحى فقط: مبادئها وقواعدها. لم أستطع الكلام إلا بالفصحى. بعد شهرين في فلسطين، في سنة 2000، كنت أتكلم العامية فقط.
في جامعة بيرزيت، لاحظ المدرسون أحيانًا أن العامية أثرت في كتابتي بالفصحى. وحصل الشيء نفسه في الجامعة الأردنية في عمان، سنة 2003. بعد ذلك تحسنت كتابتي بالفصحى، لكني كنت أستطيع التعبير الشفوي بالعامية فقط.
قبل فترة، خلال مقابلة شخصية لوظيفة في جامعة جميلة جدًا في لبنان، اكتشفت أنني أستطيع أن أتكلم الفصحى. طبعًا أحتاج إلى تركيز شديد لاختيار المصطلحات وتركيب الجمل. لكني أستطيع أن أفعل ذلك! كانت هذه المقابلة شرفًا عظيمًا لي، كأجنبية. فهي دليل على أن كل مرحلة هي حاسمة في تعلم اللغة، لأن التعلم مستمر ولا حدود له.
– الأوروبيون، أو الأجانب عمومًا، يعانون من لفظ بعض أحرف الحلق في العربية، كالحاء والخاء والقاف والعين والغين، وكذلك الأمر مع بعض أحرف الإطباق كالصاد والضاد والطاء. في الحديث معكِ، لا يشعر المرء أبدًا أنك غير عربية؛ إذ تتقنين لفظ جميع هذه الحروف. كيف حدث ذلك؟
= ربما لأني عربية في قلبي! لا أعرف بالضبط كيف تعلمت نطق الأحرف الموجودة، في اللغة العربية دون غيرها. أتذكّر أن مدرِّسي الإيطالي في الجامعة لم يكن ينطقها نطقًا صحيحًا. لكني، مثل بعض أصدقائي، كنت أريد تعلُّم اللغة المحكية أيضًا. عندما ذهبت إلى فلسطين، وبعد ذلك إلى الأردن، كي أدرس العربية في جامعات عربية، اخترت السكن في بيوت عادية مع عائلات عربية. تعلمت العامية من الناس، والفصحى من مدرِّسي الجامعة. استمعت إلى كلامهم ونطقهم، فاستفدت.
– من بين الكتَّاب السوريين ترجمتِ كتابًا لسميرة يزبك، وكتابين لفرج بيرقدار. هل كان لديك معايير لاختيارهما، أم كان الأمر مصادفة أو مصادفات؟
= في سنتي الدراسية الثالثة في جامعة البندقية، بدأت قراءة شعر فرج بيرقدار، لكنه كان صعبا عليّ كطالبة. بعد أعوام، في سنة 2010، حضرت معرض الكتاب العربي في بيروت. اكتشفت هناك كتابًا لفرج عنوانه (أنقاض)، وهو صادر عن دار الجديد اللبنانية. حينئذ أصبحتِ الطالبةُ مترجمة وباحثة… فشعرت للمرة الأولى بأنني كنت جاهزة للتحدي! ترجمت قصيدتين من كتاب (أنقاض) ونشرتهما على موقع إيطالي متخصص بسورية ولبنان. أردت أن يعرف القارئ الإيطالي بعضَ أشعار فرج.
أما بالنسبة إلى سمر، فالناشر الإيطالي هو الذي اختار كتاب (لها مرايا) للترجمة الإيطالية، وسمر اختارتني أنا كمترجمة. التقينا عام 2010 في إيطاليا، في معرض تورينو للكتاب، وترجمت ترجمة شفوية محاضرتها ومقابلاتها مع الصحفيين الإيطاليين. عملنا معا بانسجام، وهذا –على ما أعتقد- أثّر في اختياري كمترجمة.
– سمر يزبك روائية وفرج بيرقدار شاعر. ما الفوارق والصعوبات والاستنتاجات، بين ترجمة النثر وبين ترجمة الشعر.
= كل ترجمة سِفر مكوَّن من مراحل مختلفة. واجهتُ (حمامة مطلقة الجناحين) مرحلة مرحلة، تدريجيًا، خلال ثلاث سنوات. أستطيع القول إني وفرج عملنا معًا، فقد كان بيني وبينه نقاش مستمر. ومع ذلك لم أركّز على الكتاب كل يوم في هذه المدة. الترجمة الشعرية تحتاج، في رأيي، إلى وقت “للراحة”. يجب على المترجم أن ينساها ليقرأها قراءة جديدة، بريئة، حتى يصحِّح الإيقاع بالمقارنة مع النص الأصلي. الترجمة التي لا تترجِم إلا المعنى، دون الإيقاع، هي ترجمة فاشلة. لا نستطيع أن نحوِّل الشعر إلى النثر. (حمامة مطلقة الجناحين) كان أصعب أسفاري كمترجمة. لكني أحب الصعوبات، وأتعلم من خلالها.
لقد تعلمت الكثير بفضل ترجمة الألعاب الكلامية والبلاغة والعبارات المتعلقة بالتراث العربي. (مرايا الغياب) كان أسهل. ليس سهلًا. أسهل. أمضيت في ترجمته خمسة شهور: شهرين في تصحيحه الأخير. سألتُ فرج ربما عشرين سؤالًا فقط. كانت الصعوبات مختلفة في العمل: من “حمامة” إلى “مرايا”، شعرت بأنني ابتدأت بالشعر الجاهلي، بمجازاته وبلاغته، فوصلت إلى الهايكو. اختلفت التحديات الأسلوبية، ولكن فرج، عمومًا، ليس سهلًا على المترجمين! وهذا جمال ترجمة إنتاجه.
بالنسبة إلى ترجمتي كتاب سمر، فقد كان الأمر مختلفًا تمامًا. كمترجمة، أردت أن أسأل الكاتبة بعض الأسئلة، كي أترجم، أدق ترجمة، بعض المفاهيم المرتبطة بالفلسفة العلوية. ولكن كإنسانة، قررت تجنب أي تواصل مباشر معها. في تلك الفترة، قبل شهر تموز عام 2011، كانت سمر تعيش في دمشق بعد. وكان وضعها معقدًا، بسبب ضغط نظام بشار الأسد. كنت أعرف ذلك فلم أرد أن أمثّل لها تعقيدًا إضافيًا. ذهبت إلى المكتبة ودرست. بعد شهور، رأيت سمر مرة أخرى، في فرنسا. ولم أندم على قراري.
– ما هي مشاريعك في المستقبل على صعيد الترجمة من العربية إلى الإيطالية؟ هل هناك مشروع محدّد أو كتّاب عرب تفكرين في ترجمتهم؟
= عندي الآن مشروع فردي، ومشروع مع زملاء. أما الأول، فسأترجم كتاب دنيا ميخائيل الأخير (في سوق السبايا). دنيا شاعرة رائعة، لكن هذا الكتاب نثري، وأحبُّ التحدي الموجود في هذا التغيير. في الوقت نفسه، أقوم مع ثلاثة زملاء، مترجمين وباحثين إيطاليين مثلي، بإعداد وكتابة كتاب حول الشعر العربي في وقتنا الحاضر، في وسط الحروب والاضطراب السياسي والاجتماعي. يوجد فيه نقد وترجمات. أتعلَّم الكثير في إطار هذا المشروع الذي يدفعنا إلى اكتشاف شعراء عرب لم نعرفهم قط.
في آخر فترة قرأت كتاب (نزهة بحزام ناسف) للشاعر العراقي كاظم خنجر، وهو صوت من الأصوات المهمة التي أريدها أن تصل إلى القارئ الإيطالي. طبعًا أريد أيضًا أن أستمر بالعمل مع “شعرائي”، مثل فرج ومثل دنيا!
– من خلال تجارب المعتقلين السياسيين في سورية، سورية وليس إيطاليا، كان الجلاد أو المحقِّق الأخير يتلو ما يراه مناسبًا من إفادة مكتوبة باسم السجين رغمًا عنه، ثم يسأله: أتضيف شيئًا؟ نحن، عزيزتنا إيلينا، لم نكتب “إفادتكِ” أو أجوبتكِ، بل أنتِ من كتبها، ومع ذلك نشعر بكثير من الحرج، ونحن نسألك في النهاية السؤال نفسه، ولكن بمنتهى المحبة والنيَّة الطيبة: أتضيفين شيئًا؟
= قد سرق السجن براءة الكلمات، أليس كذلك؟ عبارة حيادية مثل “أتضيفين شيئا؟” قد تتعلق بظروف مؤلمة وتشير إليها. لا أستطيع أن أضيف شيئًا. فقد أضاف فرج بيرقدار الكثير الكثير في كتابه (خيانات اللغة والصمت).
جيرون
[sociallocker]
جيرون