الغارديان: ترحيب بنوع جديد من الحرب: صعود الصراع الحضري اللامتناهي



لنفكر في سبب عدم ذكر وفاة 6 ملايين شخص في المناطق الريفية في الكونغو، بينما مقتل 13 شخصًا في لندن خبر عالمي

في القرن الحادي والعشرين، أصبح البحث عن الأمن القومي مصدرًا لغياب الأمن الحضري.

فشل النموذج الأمني ​​التقليدي في ديمقراطياتنا ذات النمط الغربي، في استيعاب سمة أساسية من سمات حروب اليوم. فعندما تذهب قوانا العظمى إلى الحرب، فإنَّ الأعداء الذين يواجهونها الآن هم مقاتلون غير نظاميين، فهي ليست قواتٍ منظمة في جيوش، ولكنهم مقاتلون من أجل “الحرية”، ومقاتلو حرب العصابات، وإرهابيون. يتم تجميعهم بسهولةٍ لهدفٍ مشترك، مثلما يتمّ حلّهم. وينخرط آخرون في حروبٍ لا نهاية لها في الأفق.

ما يميل إليه هؤلاء المقاتلون غير النظاميين هو أنْ يشتركوا في الحرب، فالمدن هي المكان الذي يجدون فيه فرصةً للقتال، وحيث يمكن أنْ يتركوا أثرًا، من المرجح أنْ تلتقطه وسائل الإعلام العالمية. وهذا هو العيب بالنسبة إلى المدن، وإلى النظام العسكري النموذجي للقوى العظمى اليوم.

الفرق الرئيس بين صراعات اليوم والحروب العالمية الأولى والثانية هو عدم الاتساق الحاد، بين مساحة الحرب للجيوش التقليدية مقارنةً مع ما يشغله المقاتلون غير النظاميين.

المقاتلون غير النظاميين فعالون جدًا في المدن. إذ لا يمكنهم بسهولةٍ إسقاط الطائرات، ولا محاربة الدبابات في مساحاتٍ مفتوحة، وكبديلٍ عن ذلك، يجرّون العدو إلى المدن، ويُفقِدون القوى العظمى ميزتها الرئيسة، حيث لا تستخدم أسلحتها الآلية إلا قليًلا في الأماكن الحضرية الكثيفة والضيقة.

لقد شهدنا هذا في العراق منذ عام 2003، عندما قادت الولايات المتحدة، وحلفاؤها حربهم الثانية في العراق. وإلى جانب فيتنام، كان هذا الصراع أحد الأمثلة الرئيسة الأولى في عصرنا الحالي من هذه الحروب غير المتماثلة، وحالةً جيدة لدراسة كيف يمكن للمقاتلين غير النظاميين أن يُعرقلوا جيشًا تقليديًا ضخمًا. في حين كان الهجوم على الجيش النظامي في العراق حربًا سريعة، وسهلةً تقريبًا، حربًا فازوا فيها بشكلٍ كبير، من خلال القصف الجوي المتفوق على مدى ستة أسابيع، حيث دُمّر الجيش العراقي، لكنْ لم تنته الحرب البرية تمامًا على مدى كلّ هذه السنوات اللاحقة.

لا تعطي الحروب الحضرية المعاصرة الأولوية للقتال المباشر، وبدلًا من ذلك، فإنّها تنتج تحضرًا وهمجيةً قسريين. وفي كثيرٍ من الحالات، مثل كوسوفو، زاد النازحون من السكان الحضريين، وفي حالاتٍ أخرى، مثل بغداد، يُهجر الناس من خلال التطهير العرقي، في هذه الحالة هو الخروج “الطوعي” للسنّة، والمسيحيين والجماعات الدينية الأخرى، الذين عاشوا مدة طويلة في المدن الكبيرة في العراق.

في الواقع، غالبًا ما تتجنب القوات المتحاربة القتال، إذ تتمثل استراتيجيتها الرئيسة في السيطرة على الأراضي، من خلال طرد “الآخر” الذي غالبًا ما يُعرَّف من حيث العرق أو الدين أو عضوية القبيلة أو الانتماء السياسي. إنَّ تكتيكهم الرئيس هو الإرهاب الناتج عن الفظائع الواضحة، كما هو الحال في جنوب السودان، الذي كان موطنًا لحربٍ وحشية ودموية لا نهاية لها في الأفق، بين رجلين قويين (ومتعاونين سابقًا)، أو الكونغو، حيث إنَّ معركة الجيوش غير النظامية من أجل السيطرة على الثروة المعدنية قتلت الملايين.

الجيش الغربي يتعلم. ولدى الولايات المتحدة الآن معسكرات تدريبٍ تحاكي مناطق حضرية “عربية”، كما تبنّت الممارسة الإسرائيلية المتمثلة في دخول الأحياء المكتظة ليس عبر الشارع، ولكن من خلال العبور إلى المنازل، وهو ممرٌ موازٍ للشارع، متنقلين من غرفةٍ داخلية إلى أخرى عن طريق فتح ثقوب في الجدران المتجاورة، والتعامل مع السكان كأنّهم يواجهونهم.

لقد تعلموا، قبل كلّ شيء، أنَّ المدينة نفسها أصبحت عقبة. وفي حين أنّ بإمكانهم ببساطة تمزيق المدينة بالقصف -كما رأينا مع قصف حلب وغيرها من المدن من قبل الحكومة السورية وحلفائها- لم نرَ مؤخرًا الدمار الكامل للهجوم النووي على هيروشيما أو القنابل الحارقة في درسدن.

لماذا؟ ما الذي يجعل المدينة هدفًا إشكاليًا وغير مستقرٍ لقوتنا العسكرية العظمى؟

ضباط مكافحة الإرهاب بالقرب من مسرح الهجوم الإرهابي الذي وقع في حزيران/ يونيو عند جسر لندن، حيث قَتل ثلاثة مهاجمين ثمانيةَ اشخاص. قُتل خمسة أشخاص على يد خالد مسعود، في هجوم عند جسر وستمنستر في آذار/ مارس. تصوير: دان كيتوود/ صور جيتي

لننظر في سبب عدم ذكر وسائل الإعلام العالمية لمقتل 6 ملايين شخص، من بينهم أصحاب “الخوذ الزرقاء” التابعون للأمم المتحدة، الذين قتلوا في المناطق الريفية في الكونغو على مدى العقد الماضي، على يد الجيوش النظامية وغير النظامية، في حين أنَّ 13 شخصًا قُتلوا في لندن صار خبرًا على الصفحات الأولى.

من المؤكَّد أنَّ وسائل الإعلام العالمية تحصل على تقارير بسهولة عن المدن الكبرى أكثر منها في القرى والحقول. ولكن حتى عندما يُستشهَد بهذه الوفيات “البعيدة”، فإنَّ الصدمة والمشاركة ليستا قويتين، كما هو الحال مع الهجمات الإرهابية في المدن. هذا الانشغال بالمناطق الحضرية يتجاوز الهجمات على الناس؛ فعندما يتم تدمير مبنى تاريخي كبير أو عمل فني، يمكن أنْ يولّد ردات فعلٍ ضخمة من الرعب والألم والحزن والشعور بالخسارة، ولكن ماذا عن مقتل 6 ملايين في الكونغو؟ لا شيء.

هذا أمرٌ كاشفٌ وصادم. هل لأنَّ المدينة شيء قمنا ببنائه معًا، بناءٌ جماعي عبر الزمان والمكان؟ هل لأنَّ في قلب المدينة التجارة والمدنيّة، وليس الحرب، حتى لو نشأت العديد من المدن كحصون؟

من المؤكّد أنَّ الصدى العالمي للأحداث المأسوية في المدن يفسر لماذا العصابات الصغيرة من الشبان الغاضبين أو المتضررين أو المنعزلين يرون، حتى في الهجمات الإرهابية البسيطة في مدنهم، اهتمام وسائل الإعلام العالمية، خاصةً إذا وقعت تلك الهجمات في مدنٍ ليست جزءًا من “منطقة حرب” محددة.

إنَّ الخريطة الحضرية الجديدة للحرب واسعة؛ فهي تتجاوز بكثير منطقة الحرب. فالهجمات التي وقعت في مدريد ولندن والدار البيضاء ونيويورك وبالي ومومباي ولاهور وجاكرتا ونيس وميونيخ وباريس وبرشلونة ومانشستر وبروكسل -وما تبعها- كلّها جزءٌ من هذه الخريطة، سواء أكانت بلدانهم تشارك في مسرح الحرب النشط، أم لا.

لقد خرجنا من الحروب بقيادة قوى مهيمنة سعَت للسيطرة على البحر والجو والأرض، إلى حروبٍ في المدن، سواء داخل منطقة الحرب، أو في مدنٍ بعيدة. ويمكن أن تشمل مجال الفعل “الحرب”، أو مجرد قضايا محليةٍ محددة، فلكلّ هجومٍ مظالمه وأهدافه الخاصة، ساعيًا إلى مشروعٍ عالمي أم لا. لقد أصبحت الإجراءات المحلية التي تقوم بها جماعات عسكرية محلية، تتصرف بشكلٍ غير مستقل عن جماعات أخرى، ناهيك عن اللاعبين في منطقة الحرب -هذا المنعزل المجزأ- نوعًا جديدًا من حروبٍ متعددة المواقع.

في الحروب القديمة، كان هناك خيار الدعوة إلى الهدنة؛ أما في حروب اليوم، فلا توجد قوى مهيمنة يمكنها أنْ تقرر إنهاءها. والحروب الحضرية اليوم، قبل كلِّ شيء، هي حروبٌ من دون نهايةٍ لها في الأفق.

اسم المقالة الأصلي Welcome to a new kind of war: the rise of endless urban conflict الكاتب ساسكيا ساسين، Saskia Sassen مكان النشر وتاريخه الغارديان، The guardian، 30/1 رابط المقالة https://www.theguardian.com/cities/2018/jan/30/new-war-rise-endless-urban-conflict-saskia-sassen عدد الكلمات 974 ترجمة وحدة الترجمة والتعريب


وحدة الترجمة في مركز حرمون


المصدر
جيرون