عقد السلطة



في تفسير نمط السلطة، ثمة خلط كبير يتمثل في مكانة المرجعية الدينية، والطبقة المنتجة لدلالات النص المقدس، إذ يتم تصنيف أي سلطة تسوغ ممارستها السلطوية بالنصوص والتفسيرات الدينية على أنها سلطة دينية، إلا أن استخدام النص الديني أو البعد الديني لا يعني بالضرورة أن السلطة تنبع من التفسير المركزي للدين، إنما هي تستخدمه كأداة من أدواتها، وهي ليست الأداة الوحيدة، وإن كانت الأكثر تأثيرًا وضبطًا وشراسة. فالمجال الديني يأخذ أهميته القصوى من خلال إدراك السلطة أن تمكنها من زمام المعنى وتأويل النص، لا يمنحها القوة فقط، إنما يسبغ عليها قداسة حازمة، ويسوغ لها محاسبة مناهضيها بلا حدود!

ويتضح هذا الأمر عندما يرتكب الديني معصية ما للسياسي، أو يبدي له معارضة ما. الحسم السياسي -وإن كان يستعين بمعنى مضاد يتم تأصيله دينيًا- يشير بوضوح إلى أن المرجعية هي مرجعية السياسي، وأن السياسي هو مستقر البيعة، لا منبعها.

يذكر حافظ وهبة، في كتابه حول تاريخ الجزيرة العربية، حادثةً بالغة الدلالة، عندما اصطحب الملك عبد العزيز آل سعود، مؤسس المملكة العربية السعودية، معه في إحدى حملاته، ضابطًا وكاتبًا ومصورًا إنكليزيًا يدعى (شكسبير)*، وذلك لتوثيق الأحداث وتصويرها، لم يرق هذا الأمر للإخوان المناصرين له، ولم يجرؤ أحد منهم على مفاتحته مباشرة بأن مصاحبة غير المسلم في حرب على مسلم غير جائزة. وجد الإمام الذي يصلي بهم فرصة ليوصل الرسالة بآيات دالة على ذلك: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) المجادلة/22. فمدّ الملك عبد العزيز يده إلى ياقة الإمام، وجره خلفًا، وانتقل إلى الأمام ليكمل الصلاة إمامًا.

هذه الحادثة هي من صلب الحلف المتفق عليه بين الإمام محمد عبد الوهاب مع مؤسس الدولة السعودية الأولى محمد بن سعود التي قامت في بدايات القرن الثامن عشر الميلادي، فالبيعة كانت من الإمام لابن سعود، وليس العكس، وإن كان ابن سعود وضعه في موقع المرجعية. وكان تصرف الملك عبد العزيز تذكيرًا بمضمون الحلف، وربما هذا الحدث وبعض مواقف أخرى دفعته إلى تعديل لقب الإمام (الديني) إلى لقب الملك (الدنيوي). لتكون البيعة واضحة لا لبس فيها، بيعة الديني للسياسي، وليس العكس.

وهذه البيعة عمليًا تنتمي إلى تاريخ الإسلام في عهوده المختلفة مع بداية العهد العباسي، ولها أدبياتها وشواهدها التأصيلية الجاهزة والمتراكمة عبر مئات السنين، فالطبقة الفقهية في النظام السياسي السني هي طبقة تأصيلية، مهمتها تأصيل قرارات السياسي. ولأجل ذلك هناك أصول وأدوات ومناهج قادرة على إدارة المعنى وفرضه والتحرر منه بسهولة، كل ذلك التحول يُسوّغ من خلال نظرية الاجتهاد، الذي لا يحرم صاحبه من أجره وإن أخطأ.

مسارعة الطبقة الفقهية في أهواء الحاكم تاريخيًا كانت غالبة، حتى عند معارضة الحاكم، إنما كان الفقهاء يؤسسون ويستمرون في منهج الفتوى، هذا المنهج الذي تأسس من أجل السلطة، وفي ظل إضفاء شرعية مقدسة على السلطة باستخدام النصوص كمرجعية مؤولة.

وإلى يومنا هذا، ما من حاكم أو نظام يتسنّم هيكل السلطة في مساحة سنية إلا كانت البيعة من الديني للسياسي، ومهما بلغ شأن الطبقة الدينية؛ فإنها لن تتجاوز دورها في تأصيل سلطة السياسي إلا نادرًا.

إن مقارنةً بين دولتين دينيتين في راهننا تفسّر هذا الأمر وتوضحه؛ ففي السعودية على الرغم من انتمائها إلى الفضاء التقليدي للسلطة كونها ملكية، السياسي (الملك) هو من يملك القرار ويصدره، بينما هيئة كبار العلماء والمفتي والطبقة الدينية ينحصر دورها في تأصيل القرار، ومده بالشواهد اللازمة لجعله متوافقًا مع مبدأ تبني الشريعة الإسلامية. بينما في إيران حيث شكل السلطة يفترض أنه أكثر حداثة، كونها جمهورية يتم انتخاب الرئيس فيها، فإن السياسي (الرئيس) يتبع للديني (الولي الفقيه)، ولا يملك أن يتصرف خارج مباركته، مما يحيله هو وكل مؤسسات الدولة إلى دور تنفيذي، بينما يبقى الدور التشريعي محصورًا بالولي الفقيه والمجالس الدينية المرتبطة به. وهذه المرجعية المركزية للديني تشكلت عند الفِرق الإسلامية المعارضة للسلطة التاريخية، لكن لم تظهر عند الإسلام السني الوسيط إلا بشكل محدود في القرن العشرين، من خلال تجارب حزبية وجماعات سعت نحو السلطة أواسط القرن المنصرم، وجماعات أخرى ظهرت في الربع الأخير منه والسنوات الأخيرة، تحمل هوية جهادية، واستطاعت أن تحكم فترات قصيرة متقطعة في إطار شريعة اختُزلت في الحدود، لم تستطع الصمود لأنها لن تجد الحاضنة الكبيرة اللازمة لها من جهة، ومن جهة ثانية كانت وليدة سياسات إقليمية وعالمية، جمدتها فور انتهاء مهمتها الرئيسية على نحو ما حدث من طالبان والقاعدة و(داعش) وغيرها..

واليوم إذ نتأمل الأنظمة الاستبدادية المستمرة والناشئة، نجد أن عقد السلطة هذا يتم تجديده، فالاقتران بين السياسي والديني يؤسس لسلطة أكثر هيمنة واستبدادًا وتحكمًا، هذا النهج الذي استوعبه الرومان عندما وجدوا في المسيحية ضالتهم، بعد تدهور ووهن الميثولوجيا التاريخية، فقامت بإحياء المسيحية وهيكلتها وبلورة مرجعياتها التي أدت فيما بعد إلى تفرقها مذاهب شتى.

عزل الدين عن السياسة فكرة طوباوية، غير ممكنة، وما يظن أنه قد تحقق من نظم علمانية في العالم، لم يخرج عن المفاهيم الدينية، ولا انعزل عنها كلية، إنما هي آليات أكثر ضبطًا، وإن كانت بنعومة، والقوة الناعمة هي أشد بؤسًا من القوة الغاشمة، لأنها لا تكتفي بدفع الناس إلى حيث تشتهي السلطة فحسب، بل تحملهم مسؤولية الوضع الذي هم فيه أيضًا. وإن كانت الأديان تستهلك في أدبياتها مفاهيم تقليدية؛ فإن المافيات السياسية تطرح مفاهيم ومصطلحات وشعارات (حداثية) هي أشد بؤسًا من كل استثمار سياسي سابق للدين. قد تكون فكرة العمل على الفكر الديني -كحل ناجع- بحد ذاتها فكرة خيالية، لكن التجارب البشرية حتى راهننا تؤكد أنها الأكثر أهمية. ولعل بداية الحل تكمن في فهم النشأة الدينية والهوية المفارقة، لأنها الخطوة الأكثر قربًا لمفهوم العدالة، والأكثر قدرة على تحرير الإنسان من تراث الحقد وخرافات التعالي.


عبد الواحد علواني


المصدر
جيرون