انتفاضة الشعب الإيراني: الأسباب والمآلات



المحتويات

مقدمة

أولًا: أهم محطات الحراك الشعبي الإيراني منذ عام 1979

ثانيًا: خصائص الانتفاضة الإيرانية

ثالثًا: أسباب الانتفاضة الإيرانية

رابعًا: تداعيات الانتفاضة ومآلاتها

خامسًا: أوجه الشبه بين الانتفاضة السورية والإيرانية وكيفيات تعامل سلطتي البلدين معهما

سادسًا: خاتمة

مقدمة

لا يختلف الحراك الشعبي في إيران عن كثير من الحراكات الشعبية التي شهدتها عدة دول عربية منذ عام 2011، بل ربما يتطابق معها؛ حيث بدأ تعبيرًا عن استياء من أوضاع اقتصادية واجتماعية ضاغطة، ثم اكتسب طابعًا سياسيًا بفعل التراكم الذي استمر لعقود قبله.

لقد شكلت الانتفاضة أكبر تحدٍ للنظام الإيراني منذ عام 1979، إذ كشفت أزمة الشرعية التي يُعاني منها هذا النظام، وأوضحت حجم الخلل في بنيته السياسية والاقتصادية، ما بين استحواذ الحرس الثوري وفئة رجال الدين على معظم الثروات، وبين أغلبية الشعب الإيراني الذي يُعانى ويعيش نصفه في حزام الفقر، بينما تُعدّ إيران ثاني أكبر منتج ومصدّر للغاز في العالم.

أولًا: أهم محطات الحراك الشعبي الإيراني منذ عام 1979

مشهد إيران الحديثة مختبر يدعو إلى التفكير، فقد تصلّب حكم الشاه محمد رضا بهلوي حتى غدا عبئًا، حتى على مناصريه، ولم تُفلح حركة مصدّق الوطنية عام 1952 في التخلص منه. ولكن بعد ذلك سهل اقتلاعه، بواسطة الثورة الشعبية التي قامت بها الجماهير الإيرانية، والتي جاء أصحاب العمائم لكي يقطفوا ثمارها ويصادروها، من دون أن يكون لهم دور حقيقي مباشر فيها سوى توزيع بضعة أشرطة كاسيت تحتوي شعارات شعبوية.

لقد وُضِع الدستور الإيراني عام 1980، حيث تميّز النظام السياسي عن سائر النظم السياسية العالمية بميزة دستورية فريدة، وهي وجود مؤسسة اسمها “الولي الفقيه” أو “المرشد الأعلى” تتربع على قمة هرم السلطة، يخوِّلها الدستور صلاحيات واسعة، ما أدى إلى سلسلة متوالية من الحراك الشعبي لتصحيح المسار وتحقيق الآمال، بمشاركة طيف مجتمعي متنوع وحضور لافت من جيل الشباب، الذي لم يشارك في ثورة 1979، لكنه حرص على الانخراط في موجاتها التكميلية التصحيحية.

جاءت أولى محاولات الإصلاح من قبل أول رئيس منتخب في عقب الثورة مباشرة، أبو الحسن بني صدر، الذي حاول أن يُضفي على نظام “الولي الفقيه” مسحة ليبرالية ديمقراطية تطال سياساته الداخلية والخارجية. لكن سرعان ما لاحقته اتهامات بالخيانة حتى تمّت إقالته ليفرّ، من ثم، إلى فرنسا؛ وإلى مآل مشابه ذهب إليه آية الله منتظري الذي كان نائبًا للخميني ومرشّحًا لخلافته، لكنه ما لبث أن تعرّض لإقصاء تعسفي بعدما اجتهد لتطوير نظرية “الولي الفقيه” مقترحًا تقليص دوره السياسي وإنهاء عصمته من المحاسبة. فما كان من الخميني إلا أن أجبره على الاستقالة عام 1989.

خلال عامي 1999 و2003، انتفض طلاب جامعة طهران احتجاجًا على ادّعاء الرئيس الأسبق، مجمد خاتمي، القيام بإصلاحات سياسية، لم تكن سوى عمليات تجميل لنظام “الولي الفقيه”. وفي عام 2009 اندلعت “الحركة الخضراء”، اعتراضًا على نتائج الانتخابات الرئاسية التي أسفرت عن فوز الرئيس السابق، أحمدي نجاد، بفترة رئاسية ثانية. وفي حين رفعت التظاهرات مطالب سياسية، كما تصدرت صفوفها الأولى قيادات سياسية بارزة، فقد عجّل استخدام النظام أبشع صور القمع، ووضعه رموزها رهن الإقامة الجبرية، بالتزامن مع غياب الدعم الدولي، بنهايتها بعد ثلاثة أسابيع.

وقد بدا الرئيس روحاني الرهانَ الأخير لمن ظلوا يراهنون على الإصلاحيين، بعد أن أدرك قطاع من القاعدة الشعبية للتيار الإصلاحي عدم جدوى هذا الرهان بعد انتخابات 2009 التي أُسقط فيها مرشحهم، مير حسين موسوي، ثم فُرضت عليه الإقامة الجبرية. وفى الوقت نفسه نشأ جيل جديد رافض للإصلاحيين، بمقدار رفضه للتيار المحافظ المهيمن على السلطة بقيادة “المرشد الأعلى” علي خامنئي.

حصّن النظام الإيراني، منذ عهد الخميني، نفسه من أي قوى للمعارضة، خصوصًا القوى المدنية والسياسية، عبر إحكام القبضة على البلاد من ثلاث دوائر رئيسية: القبضة الدينية بتطبيق “ولاية الفقيه”، وحكم العسكر والحرس الثوري والميليشيات المسلحة المنبثقة منه، والمؤسسة الاقتصادية وطبقة رجال الأعمال.

منذ الثورة الإسلامية الإيرانية، بدا واضحًا أن السياسة الإيرانية تولي الملفات الخارجية اهتمامًا أكبر من اهتمامها بالملفات الداخلية، وقد أتت الحرب الإيرانية- العراقية (1980- 1988) لتعطي النظام الإيراني شرعية أمام الداخل؛ فمثل جميع الأنظمة الشمولية التي تحتاج إلى تدعيم شرعيتها، مضى النظام السياسي الإيراني خطوات كبيرة في ترسيخ وجوده الإقليمي من أجل تحقيق شرعية النظام.

وعلى الرغم من وجود إشارات كثيرة إلى صعوبة الأوضاع داخل إيران، ورغبة قطاعات واسعة في التغيير، إلا أن النظام بقي متجاهلًا تلك الإشارات. وقد فشلت سياسات الانفتاح الداخلي والخارجي، المحدودة، التي تبناها الرئيس روحاني في إحداث التحوّل المنشود. وبدا أن تركيبة النظام السياسي عصية على الإصلاح والتغيير نتيجة لعائقين جوهريين هما: ازدواجية النظام السياسي نفسه بين سلطة “المرشد” المطلقة وهامش الحكم الضئيل المتاح للرئيس المنتخب، والانفصام المتزايد بين الدولة والمجتمع المدني.

أوجد التقسيم ما بين ديني وسياسي تيارات التشدد والإصلاح، وقد يحلو لكل طرف اللجوء إلى الشارع، لإطلاق بالونات اختبار، وإظهار مستوى قوته للطرف الآخر، على الرغم من أن انتخابات الرئاسة تُظهر تناوبًا، يبدو مدروسًا، لظهور رئيس متشدد، يتلوه رئيس إصلاحي، ولفترتين رئاسيتين لكل منهما، ما يعني أن المطلوب أن يبقى التياران في قيد الحياة، وعلى قيد الصراع، فوجودهما يخلق رغبة في وجود قيادة أعلى، تحسم الصراعات، أو تجعل الكفة تميل لأحد الجانبين، وهذه القوة هي قوة “المرشد الأعلى” بالطبع.

ومن مدينة مشهد، ثاني أكبر مدن البلاد، انطلقت في 28 كانون الأول/ ديسمبر الماضي أحدث موجات الحراك الشعبي، التي تعد الأجرأ والأوسع انتشارًا والأكثر تجاوزًا للخطوط الحمر، حيث طالب بعض المنتفضين بإسقاط الرئيس والمرشد، وأعربوا عن رفضهم إهدار بلايين الدولارات على الميليشيات الشيعية في لبنان والعراق وسورية، في الوقت الذي تتفاقم فيه معاناة الشعب الإيراني.

ثانيًا: خصائص الانتفاضة الإيرانية

تعكس التظاهرات، بمحيطها الجغرافي وشعاراتها، حالًا أعمق من التي يريد النظام الاعتراف بها؛ فقد بدأت لأسباب اقتصادية واجتماعية من دون قيادة أو هدف سياسي محدد، ولكنها سرعان ما رفعت شعارات تندد بالنظام وتطالب بتغيير شامل.

اجتاحت التظاهرات أكثر من 40 مدينة، ورفع المتظاهرون لافتات تطالب بالحرية والحياة الكريمة ومواجهة الفقر. وتميزت عن سابقاتها، خصوصًا تلك التي شهدها صيف 2009، بأنها تمددت أفقيًا، حيث شملت مدنًا ومناطق بعيدة من المركز، وانطلقت من نواحٍ تُعدّ قواعد أساسية للنظام. لكنها كانت عفوية تنقصها القيادة، التي تجعل لها استراتيجية عامة تضمن لها الاستمرارية والتعبئة، لزيادة أعداد من ينزلون إلى الشارع.

تشير تقارير التنمية البشرية للأمم المتحدة للأعوام القليلة الماضية إلى أن الشباب الإيراني، الذين تقع أعمارهم ما بين 14 عامًا و45 عامًا، يشكلون نحو 60 في المئة من الشعب الإيراني. كثيرون منهم نزلوا إلى الشوارع في الأعوام الماضية، وأقفلوا طرقات طهران ابتهاجًا بالاتفاق النووي في سنة 2015، وبفوز روحاني بولاية رئاسية ثانية في سنة 2017. هؤلاء الذين استند إليهم ثوار 1979 لإطاحة نظام الشاه، ينتظرون سانحتهم للقيام بثورتهم الخاصة.

كما عصفت الانتفاضة بالفجوة بين الأجيال، حيث ضمت أناسًا من جميع الشرائح العمرية، كما تقاطعت مع الفجوة بين الجنسين، حيث جمعت كثيرًا من الرجال والنساء جنبًا إلى جنب. وفي كثير من الأماكن، وحتى في البلدات الصغيرة، تزعمت المرأة الإيرانية الاحتجاجات.

هذه المرة لم تندلع شرارة التظاهرات في العاصمة طهران، ولم تقدها فئة الطبقة المتوسطة، بل الطبقة المسحوقة والمهمشة. هذه الفئات طال صبرها وانتظارها لوعود الرئيس روحاني، في عقب الاتفاق النووي وحصول إيران على مليارات الدولارات التي وُزِّعت على ميزانية الحرس الثوري والحوزات العلمية والمرافق المرتبطة بمرشد الثورة علي خامنئي.

لوحظ اختلاف الشعارات بحسب المناطق، ما يعني اختلافًا في الأولويات والاهتمامات والأهداف لدى المحتجين، وعدم وجود ناظم عام يربط بين أهدافهم. بمعنى أنه ليس هناك تنظيم، ولا يوجد ما يؤشر إلى وجود تحالفات تعكس وحدة الأهداف بين المحتجين.

وإذا كانت احتجاجات 2009 إصلاحية الطابع، فإن احتجاجات 2017 تحمل طابعًا تحويليًا ثوريًا، تعيد النظر في العقد الاجتماعي بين سلطة “ولاية الفقيه” وبين الشعوب الإيرانية، التي عاد وضعها أسوأ مما كان قبل ثورة 1979 الإسلامية. إنها أول مرة، منذ قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي يطالب فيها المنتفضون بتنحّي المرشد الأعلى للثورة، وهذا واحد من مطالب جذرية، تعطي بعدًا جديدًا للانتفاضة. إنها لغة جديدة لم يعهدها المسؤولون الإيرانيون، ولم يسمعوا أحدًا ينادي برحيلهم بهذا الغضب الذي اتصف به المنتفضون، كما لم يروا صورهم وشعاراتهم تداس في شوارع المدن المنتفضة.

أوضحت الانتفاضة طبيعة تبادل الأدوار داخل النظام السياسي الإيراني، إذ لم يجد المنتفضون أي دعم أو مساندة من رموز التيار الإصلاحي، بل كانت مواقفهم من الانتفاضة تأكيدًا لتلاشي المساحات والاختلافات بين المحافظين والإصلاحيين، وهو انكشاف تام للواقع السياسي الإيراني، الذي يتنافس فيه طرفان على خدمة نظام متسلّط لا أمل في إصلاحه من داخله.

وهكذا، تراجعت أعداد المنتفضين سريعًا، بعد تحوّل الحراك السلمي إلى أعمال عنف، وصفتها السلطات بالتخريب المدبّر من عملاء للخارج. فانقسم المنتفضون على أنفسهم مختلفين على الخطوة التالية، والسقف الذي ينبغي الوقوف عنده.

ثالثًا: أسباب الانتفاضة الإيرانية

لا نستطيع أن نفهم ما حدث في إيران بعيدًا عن الواقع الاقتصادي والمعيشي الذي تعيشه إيران. هناك أكثر من ثلاثة ملايين عاطل عن العمل في إيران، بمعدل بطالة 12.7 في المئة بحسب تقارير البنك الدولي، وأشارت تقارير نشرت عام 2015 إلى وجود نحو 15 مليون مواطن (من أصل 80 مليونًا) يعيشون تحت خط الفقر المدقع. كما تشير الدراسات أيضًا إلى نزوح نحو سبعة ملايين طالب عن المدرسة، وتوجّههم إلى سوق العمل بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية، حيث تفتقد العديد من المحافظات الخدمات الأساسية وجودة المعيشة.

ومن هنا نستطيع استيعاب الشعارات التي رفعها المتظاهرون، والتي تركزت في الأساس على ارتفاع الأسعار والمطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية، والتوقف عن الدعم المالي لحزب الله وبشار الأسد والميليشيات العراقية واليمنية، ثم وصلت إلى ذروتها بالمطالبة بإسقاط النظام وإلغاء ولاية الفقيه.

ويتباين حجم مساعدات طهران النقدية والعينية لحلفائها في العراق وسورية ولبنان واليمن، لكنها تقدر بالمليارات، إذ يبلغ تمويل “حزب الله” المباشر بين نصــــف مليار ومليـــار دولار سنويًا، ويجري تزويــــد نظام دمشق بنحو 60 ألف برميل نفط يوميًا، عدا عن تسديد قيمة جزء من فواتير تكاليف التجهيز العسكري للقوات السورية، بخاصة “قوات الدفاع الوطني” التي توازي الجيش السوري النظامي والمجهزة علـــى غرار الحرس الثوري الإيراني. وعلى هذا، لم يكن مفاجئًا على الإطلاق أن يرتفع صراخ المتظاهرين “لا غزة لا سورية لا لبنان أرواحنا فداء إيران”.

وإذا كانت المليارات التي حصلت عليها طهران، بعد توقيع الاتفاق النووي في عام 2015، قد تبخرت في الإنفاق على الحروب وتمويل تدخلات إيران الخارجية، فإن حكومة روحاني زادت من الضيق الاقتصادي، ومن رفع مستوى الفقر عند الناس، في الموازنة الجديدة.

وثمة دور للصراع السياسي بين الأجنحة والنخب الحاكمة، وكلها بالطبع حريصة على بقاء النظام ما دام يوفر لها أو لمعظمها مكاسب لا يمكن التساهل بالتنازل عنها. هكذا، تركت آثارها الحملات المتواصلة للمحافظين على إدارة الرئيس روحاني، ومثلها الصراع الخفي على وراثة المرشد، وما يرافقه من أحاديث عن فساد ومحسوبيات وتقاسم منافع وثروات، إضافة إلى تبادل معظم القوى السياسية الاتهامات بالفساد والتغوّل على الثروة والتحايل المصرفي، واستئثار الحرس الثوري بحصة الأسد، وهو الذراع الأساسية في تعامل إيران مع الخارج.

رابعًا: تداعيات الانتفاضة ومآلاتها

إذا تابعنا المواقف، خلال أيام الانتفاضة، سنلمس كيف أن المصالح هي التي فرضت هذه المواقف، وهو ما يظهر في الانقسام بين الدول الكبرى والدول الإقليمية، حيث وقفت أميركا مع الشعب الإيراني، وكذلك فعلت السعودية والإمارات. لكنّ موقف روسيا كان مختلفًا، وأيضًا تركيا، وحتى فرنسا ومجمل الدول الأوروبية.

اتخذ الرئيس ترامب موقفًا مغايرًا لسلفه، وعنده أن الإيرانيين سئموا من النظام القمعي الذي لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. كذلك أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أنه يجب “محاسبة” المسؤولين الإيرانيين عن أعمال القمع، مؤكدة أنها “لن تنسى ضحايا الاحتجاجات”. وطالبت واشنطن بعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن من أجل مناقشة الوضع في إيران، حيث رحبت السفيرة الأميركية بالأمم المتحدة، نيكي هايلى، بـشجاعة الشعب الإيراني، وهو ما اعتبره نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف “تدخلًا ضارًا ومدمرًا في سيادة إيران”، وشدّد على أن فرض الولايات المتحدة عقوبات جديدة على إيران “وسيلة غير شرعية”. كذلك دعا المندوب الروسي في مجلس الأمن إلى ترك إيران “تتعامل مع شؤونها الداخلية بنفسها”، مؤكدًا أن “النهج الأميركي عبر مجلس الأمن كان له تأثير في نشر الفوضى في عددٍ من دول الشرق الأوسط”، فيما قال نائب السفير الصيني لدى الأمم المتحدة، وو هايتو، إن “الوضع الإيراني لا يهدِّد الاستقرار الإقليمي”.

فرنسا، وربما ألمانيا وحتى بريطانيا، لم تدعم الحراك الشعبي الإيراني، بل رفضت، فرنسا على وجه الخصوص، “التدخل الأميركي”، على الرغم من أن كل دول الاتحاد الأوروبي أدانت “قمع المتظاهرين”. ولا شك في أن الاتفاق النووي فتح لها بابًا للكسب الاقتصادي، حيث عقدت صفقات عديدة مع النظام الإيراني، وهي تريد أن يستقر الوضع، وأن تحصل على “أرباحها”.

أما الموقف التركي من الانتفاضة الإيرانية فقد عزف على نهج إيران الرسمي، الذي يرى مؤامرة تستهدف إسقاط النظام، لذا حذرت تركيا مما أسمته “تدخلات خارجية”. ويبدو أنها تخشى من أن يؤدي تطور الانتفاضة إلى موجات نزوح جماعي نحوها، إضافة إلى حرصها على جملة مصالح اقتصادية وتجارية مع طهران.

أما الدول العربية، الغارق معظمها في مشكلاته الداخلية والخارجية، فإن بعضها، الذي يتهم إيران بالتدخل في شؤونه، بدا مرتاحًا ومتفائلًا من تلك الاحتجاجات؛ لكن حكومات هذه الدول بدت في الوقت نفسه قلقة، كونها ليست مكترثة بإحلال الديمقراطية في إيران، ولا بتحسين الوضع الاقتصادي ورفاهية الشعب، بقدر اكتراثها بأن توقف إيران تدخلها في شؤونها. لذلك فهي غير متشجعة لفكرة إسقاط النظام، ولا ترى لها مصلحة أو اهتمامًا مباشرًا في ذلك، بقدر اهتمامها بسلوك إيران الخارجي وباستراتيجيتها الإقليمية، ومن ثمّ، التوقف عن مشاريعها العدوانية والتوسعية، والعمل على استثمار هذه الاحتجاجات في تحويل خياراتها الخارجية، والالتفات، من ثم، إلى الداخل الإيراني.

وعلى الرغم من أن “إسرائيل” حاولت في البداية التظاهر بعدم الاهتمام، إلا أنه تبين أن حكومة بنيامين نتنياهو كانت تراهن على تداعيات هذه التظاهرات، بشكل يدفعها للتعاطي معها كأحد التطورات الإقليمية عند بلورة خطواتها العسكرية والسياسية.

وفيما يتعلق بروسيا وتركيا، ليست المشتركات مع نظام الملالي هي ما يدفع بوتين وأردوغان للشدّ على يد خامنئي. ويبدو أن هناك طموحًا مشتركًا لديهما لاستغلال فرصة استراتيجية تاريخية متعينة بالانكفاء الأميركي والغربي عمومًا عن المنطقة. وهذا الطموح موجود لدى الأطراف الثلاثة (روسيا وتركيا وإيران)، وهو يتغذى على اعتبار المنظومة الدولية لحقوق الإنسان في حكم المنتهية، وعلى التأسيس، انطلاقًا من هذا، لما يناقض هذه القيم في البلدان الثلاثة وفي مناطق نفوذها المكتسبة.

وبذلك، يظهر واضحًا تناقض المصالح بين كل هذه الدول، حيث يبدو نشوء محورين: أميركا والسعودية والإمارات من طرف، وروسيا وتركيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى من طرف آخر. وكل منهما يريد استغلال الحدث لتحقيق مصالحه، وكلها ترفض الثورات أصلًا، ولم تدعم الثورات في البلدان العربية، على الرغم من ادعاء بعضها ذلك. هذه المواقف هي نتاج المصالح التي كانت توضح، منذ زمن، أن هناك دولًا تطور علاقاتها مع النظام الإيراني، وتعقد صفقات معه، وأخرى تخافه وتريد ليس سقوطه، وإنما إضعافه، كما تفعل أميركا، لكي تجعله حليفًا لها في منطقة تحتاج إليه فيها في سياق استراتيجيتها القائمة على “حصار الصين”. هذا ما حدث في الثورة السورية.

وهكذا، من الصعب التكهّن بمآلات الحراك الشعبي الإيراني المستقبلية، اعتمادًا على المعطيات الراهنة، سواء من جهة حجم وطبيعة التحرك، أم من جهة نوعية القيادات ومدى انسجامها، وحدود توافقاتها حول استراتيجية عامة لمواجهة التحديات في مختلف المناطق، وعلى مختلف المستويات. غير أن المؤشرات التي تستوقف أكثر من غيرها في هذا الحراك هي: اتساع النطاق، وتعددية الشرائح المجتمعية والقوميات المشاركة فيه، وتجاوزه كل الخطوط الحمراء في قاموس النظام، وغلبة الطابع الشبابي، والإسهام البارز للمرأة.

وما يُستشف من كل هذه المؤشرات هو أن الدعوات المطالبة بتغيير النظام قد بلغت مرحلة النضج نسبيًا، وأن تراكمات عقود من الهيمنة المطلقة على مفاصل الدولة والمجتمع في إيران من قبل نظام ثيوقراطي قد أفقدت النظام الإيراني عوامل جاذبيته الشعبوية.

إن أي استشراف لمآل الانتفاضة، محكوم بمحددين، على الأقل: أولهما، مدى كثافة المنخرطين في الانتفاضة، إذ لا يمكن، في ظل السلطوية الإيرانية وإغلاق المجال الإعلامي في إيران وعدم انفتاحه على وسائل الإعلام المحايدة أو الخارجية، تقدير الأعداد الفعلية للمتظاهرين، أو تقدير حجم الاحتجاجات ومدى تشكيلها خطرًا على النظام. وثانيهما، أنه في ظل القمع الشرس الذي يتوافر لدى النظام الإيراني، من الصعب معرفة مدى قدرة هذه التظاهرات على الديمومة والصمود واستجلاب المساندة، والقدرة على التأثير وفرض الشروط.

وإذا كان مبكرًا تصوّر مآلات ما حدث في مدن عديدة في إيران، إلا أن هذه الانتفاضة، في شكلها الممتد على مساحة واسعة، يمكنها أن تكون علامة جديدة في تاريخ إيران، ينتقم فيها أبناء الذين شاركوا في الثورة ضد الشاه وأحفادهم، في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، من أولئك الذين خطفوا الثورة لتأخذ منحاها الإسلامي الطائفي في أبشع صوره، بعد أن كانت ثورة العلمانيين والليبراليين والإسلاميين معًا.

قد لا تكون هذه الثورة ثورة على النظام برمته، وقد تكون تطويرية أو تصحيحية، منعكسة بالتالي على الحيّز الجغرافي العاملة في إطاره. فتصدير الثورة في 1979 سيلحقه تصدير تصحيحها أو تطويرها. الأساس أن الإيرانيين لن يعودوا خطوة إلى الوراء، هناك أمر ما قد كُسر، والعنف المضاد لن يؤدي سوى إلى تسريع عملية التغيير، وهو ما اعترف به الرئيس روحاني؛ وهم، بانتسابهم لأجيال شابة، لا يراهنون على عودة الماضي الذي يجهلونه، بل يتطلعون إلى المستقبل، إلى دولة طبيعية، يتم فيها الفصل بين السلطات، ولا تتمركز في أيدي عدد ضئيل من رجال الدين، يمزجون الدين بالسياسة وبنظام الحكم، ويعتبرون كل ممارساتهم السياسية معصومة من الخطأ والزلل، وفوق النقاش وخارجه.

من المستبعد أن تتعلم طهران من درس التظاهرات الأخير، وأن تسعى، من ثمّ، إلى معالجة مسبباتها، وتعيد النظر في سياستها الخارجية وتنسحب من مناطق الأزمات. إنها تكتفي، على الأرجح، بالتصرف على أساس أن ما حصل مجرد مؤامرة خارجية. ولكن من المؤكد أن إيران لا يمكن أن تتجاوز ما حدث، إذ سيكون للانتفاضة انعكاسات على مستوى قادة وصناع القرار (النخب الحاكمة)، وستظهر آراء تنادي بضرورة الانكفاء داخليًا لإدارة الأزمة، وآراء ستطالب بتخفيف الانهماك بالخارج، والالتفات إلى الداخل، ومعالجة أزماته، وتفكيك القنابل الموقوتة الكثيرة في البيت الإيراني. وستتصارع هذه الآراء، وتتفاعل فيما بينها، وبينها وبين الشارع، وسيكون لها أثر في موازين القوى بين المحافظين والإصلاحيين، وقد يتشكل تيار ثالث في السلطة، يتجاوز طروحاتهما؛ فالحريق وصل إلى البيت الداخلي، ولم تعد مسارح سورية والعراق ولبنان واليمن ساحاته، ومن ثمّ، يجب أن تكون الترتيبات مختلفة.

والسؤال: هل يستطيع روحاني، وهو ابن هذا النظام، أن يكسر هذا التحجر في المنظومة العميقة التي نشأت بعد الثورة الإسلامية؟ هل يمكنه قيادة تغيير حقيقي في السياستين الداخلية والخارجية لبلاده، ليحقق بعض آمال الذين رأوا إلى الاتفاق النووي بداية تحوّل الجمهورية من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة؟ هل يستطيع رفع القبضة الأمنية وفتح الباب أمام الحريات الفردية والعامة وتوزيع الثروة على الجميع وإتاحة المجال أمام القطاع الخاص بدل تغوّل الحرس الثوري على الاقتصاد والمؤسسات والمشاريع الكبرى؟ أم هل ستجري التضحية بحكومته لضمان بقاء النظام؟

خامسًا: أوجه الشبه بين الانتفاضة السورية والإيرانية وكيفيات تعامل سلطتي البلدين معهما

على الرغم من أوجه الاختلاف العديدة بين الدولتين، سورية وإيران، من حيث الموقع الجغرافي، وعدد السكان، والموارد الاقتصادية، والمكونات الاجتماعية، والأيديولوجية المعلنة، فإن سلطتي البلدين، وانتفاضة شعبيهما، متشابهتان في مجالات عديدة.

فالحراك الشعبي الإيراني يقدم جملة سمات مشتركة مع الانتفاضة السورية: انفجرت الانتفاضتان في شكل عفوي انطلاقًا من دعوات شبابية أمكن لها توظيف تكنولوجيا مواقع التواصل الاجتماعي في نقل وقائع ما يجري في البلدين، وانطلقتا من مطالب اجتماعية سرعان ما تحولت إلى سياسية. فمن شعارات “الشعب يريد إسقاط النظام” و “إرحل إرحل يا بشار”، إلى “الموت للديكتاتور” أي لخامنئي وذهاب روحاني وإحراق الحوزات الدينية..الخ، قواسم مشتركة في البلدين تصب في أهداف سياسية واحدة: تغيير النظام، كسر هيبة النظام، وكسر حاجز الخوف، من خلال نزول الشعب إلى الشارع والشعارات التي نادى بها.

ثم إن النظامين رفضا اعتبار الحراك ناجمًا عن انفجار الاحتقان السياسي والاجتماعي في بلديهما، واتّهما الخارج بتدبيره وقيادته. والخطاب نفسه الذي سمعناه في دمشق بداية الثورة: مندسّون، ومؤامرة خارجية، وعملاء، وتدخل جهات أجنبية..الخ، كرّره في إيران الولي الفقيه، وقبله الرئيس حسن روحاني ومسؤولون كثر في النظام. هذا هو منطق “الدفاع عن الذات”، والبحث عن “كبش فداء”، الذي يحكم السلطتين.

وفي سياق التماهي مع الثورة السورية، رفع المتظاهرون الإيرانيون لافتات بيضاء، توثق المكان والزمان، وبثوا مقاطع فيديو مباشرة، فكانوا على خطى المتظاهرين السوريين في تظاهراتهم السلمية، قبل سبع سنوات، عندما ضُربوا بالرصاص واتُّهموا بالإرهاب. وعندما يظهر علم الثورة السورية في تظاهرات الإيرانيين، وينشئ ناشطون سوريون صفحة في (فيسبوك) بعنوان “متضامنون مع الشعب الإيراني”، باللغتين العربية والفارسية، كي تنقل أخبار قمع الاحتجاجات، فهذا مؤشر على أن العداء ليس بين الشعبين، بل في مواجهة نظامي البلدين، ومن ثمّ، فإن مصلحة أحدهما في التخلص من نظامه أو من ممارساته تصب في مصلحة الآخر.

إن مشكلة الانتفاضات الشعبية ذات البعد الوطني التي تجري في ظل أنظمة مغلقة إيديولوجيًا، ولديها جيش عقائدي كالذي شهدناه في إيران وسورية، هي في كونها لا تُفضي، في أغلب الأحوال، إلى تغيير سلمي، أو إلى تنازل من هذه الأنظمة التي تستخدم كل أشكال القمع لوأد هذه الانتفاضات في بداياتها، أو كسرها عبر دفعها في مسارات أخرى.

سادسًا: خاتمة

جوهر الرسالة التي حملتها الانتفاضة الإيرانية هي تلك المتمثلة بضرورة خضوع النظام للمحاسبة أمام شعبه. لكنّ المرشد الأعلى يراهن على شيء آخر، ذلك أن سلطته الدينية تعتمد على استمرار قوة الدولة الأمنية العميقة التي هي، في الوقت ذاته، مركز الثقل الاقتصادي في البلاد. وما دام هذا قائمًا، فإنه لن يستطيع، أو لن يقوم بمعالجة السبب الأصلي لانتفاضة الشعب الإيراني.

لكن القبضة الأمنية تستطيع أن تضمن تأخير إسقاط النظام، غير أنها لا تستطيع أن تقتل إرادة شعب يسعى للحرية. فالقضاء على “الفتنة” ليس بإسكات الاحتجاجات الشعبية ومطالبها المحقة في الميادين العامة، ولا بحل المشاكل الاقتصادية فقط، ولا بتهديد الجيش في التدخل أيضًا، وإنما بضرورة بناء دولة ديمقراطية تمثل الإرادة الشعبية المعاصرة.

لقد كسرت تظاهرات إيران قدسية النظام لدى الشعب، ولم تعد هناك محرّمات. ومن ثمّ، فإن الخروج في تظاهرات أوسع وأكبر لا تنادي بالإصلاحات الاقتصادية فحسب، وإنما بإسقاط النظام كله، لن تكون بعيدة. وهكذا، بات من المؤكد أن النظام الإيراني يعيش موسم الخريف، حتى وإن تأخر تساقط أوراقه، فقد دخل في دائرة مغلقة، الخروج منها يتطلب تنازلات سياسية في الداخل وفي الخارج أيضًا.


مركز حرمون للدراسات المعاصرة


المصدر
جيرون