سالينجر.. الحارس في حقل الشوفان



يستريح جيروم ديفيد سالينجر في حقل الشوفان، يتمهل بخطاه داخل اللون الندي للسنابل لكيلا يخدشها، وينتظر أطفالًا يتراشقون بالضحكات من حوله مثل فراشاتٍ شقية. لكنه يظل هناك، عالقًا داخل فضاء حكايته الأكثر شهرة، ولا يندم لأنه لم يغادر بيتَ روايته الوحيدة (الحارس في حقل الشوفان)، خلال حياةٍ مديدة تعدت التسعين سنة (1919 – 2010).

كتب سالينجر ونشر، ثم كتب لنفسه ولم ينشر. اعتاد العزلة وطوق نفسه بها، وعليكم أن تتخيلوه ملتصقًا بكوخٍ ملحقٍ بمنزله المتطرف، بعيدًا عن ضوء الشهرة وخفقان أجنحته، وعن تربّص الصحافيين بأخباره. فقد تدثرَ بروايته الناقدة جيلٌ بأكمله، فضلًا عن أنها من أكثر الروايات مبيعًا، داخل الولايات المتحدة وخارجها، حتى يومنا هذا. ولعل الكاتب وقعَ في غرام ما كتب، تماهى مع فلسفة روايته، فصارا معًا كيانًا واحدًا يتحاشى الحياةَ المزيفة للمجتمع الأميركي، ويبرهن بيسرٍ على هشاشة بريقها؛ إذ يقودنا الفتى “هولدن كولفيلد” البطل الوحيد في الرواية إلى مدينة نيويورك، وقد تعافت من آثار الحرب العالمية الثانية، ومن استنتاجاتها الشاقة، ليبني سردًا ممتعًا من أدواتٍ روائيةٍ بسيطة، كما درجت عليه العادة في روايات تيار الحادثة، حيث اعتمد سالينجر على سردٍ خطي لا تستطيل منه أي تشعباتٍ، وعلى راوٍ وحيد هو بطله “كولفيلد” الذي يشاركنا بوصلته وأفكاره الهجائية، بعد طرده من مدرسة “بنسي”، وتسكعه ليومين بين الفنادق والحانات والحدائق، قبل أن يصل إلى منزل والديه. تلك السخرية المحببة التي لا تنتهي، وتجيء على لسان صبي مراهق يبحث عن هويةٍ حقيقية داخل مجتمعٍ يظل يصفه بالمزيف. سردٌ شيقٌ بسخاء، وسخريةٌ لذيذة تنصاع للبطل، مذ أضاعَ معدات فريق “الشيش” للكرة داخل قطار الأنفاق، وحرمهم من المباراة المنتظرة، ثم انتقاله لوداع الأستاذ “سبنسر” مدرس التاريخ العجوز في مدرسة “بنسي” التي تزور نفسها بواسطة إعلانٍ طرقي لا يشبه واقع الحياة الدراسية داخلها بشيء، و”كولفيلد” لا يمل من اقتباس اهتمامنا بسخرية سرده، يزودنا على الدوام بإلهامٍ مستتر كحجةٍ دامغة، نقيمها على الواقع ليستقيم فهمه، يعري نسقَ الحياة في السكن الداخلي للمدرسة، حيث عورات زملائه “ستراد ليتر”، و”روبرت أكلي”، وغيرهم. وتلك شخصياتٌ لم يتجاهلها سالينجر، بل كتبها باقتدارٍ وعفة وسخريةٍ متقنة الصنع، وكأنه يعلم أن روايته صعبٌ أن تُقلد بأخرى، وصعبٌ أن يفلتَ القارئ من بين سطورها، ولا يكمل الركض وراء مجسات سردها، التي يرتبها “كولفيلد” بعنايةٍ وصبر، والتي تشبه التمائم في تأثيرها. حيث إن الفتى يزوغ عن المنزل ريثما تصل برقية طرده من المدرسة إلى أهله؛ فتصير ردة فعلهم عليه أقل وطأة. يترك “بنسي” ليلًا دون أن يودع أحد، ويستأجر غرفةً في فندق “أدمونت” لمجرد تمرير الوقت بسلام، لكن قناعاته بزيف الحياة التي تربض فوق كاهله تزداد اتساعًا، كأنما تلاحقه بتفاصيلها، ويلاحقنا بسخريته منها.

أخته الصغيرة “فيب”، وأخوه الميت “آلي”، شخصياتٌ لا تدخل دائرة السخرية، إذ ليستا شخصيتين مأزومتين بالادعاء والتصنع، كما هو الحال لدى سائر شخصيات مجتمعه. أراد الكاتب بث اليقين بأن الأطفال والموتى هم الناجون الوحيدون من مصاير الحياة المزيفة داخل المجتمع الأميركي، وعندما تسأل “فيب” شقيقها “كولفيلد” عن المهنة التي يرغب فيها في المستقبل، لا يتردد في تذكر ما قاله الشاعر روبرت بينز، يقتبس منه، ثم ينثر بذارَ حلمه أمام أخته، في الصفحة 249-250: (أصور لنفسي هؤلاء الأطفال، يلعبون لعبةً ما في حقل الشوفان هذا الكبير. الآلاف من الأطفال الصغار ولا أحد غيرهم هناك، لا أحد من الكبار، أعني عداي أنا. وأنا واقفٌ على حدود هضبة جنونية، ومهمتي الإمساك بكل من يحاول الصعود إلى الهضبة، أعني أن الأطفال ينطلقون راكضين، ولا يحاولون أن يتبينوا اتجاههم، فمهمتي أن أتقدم، وأمسك بهم. يكون هذا هو عملي طيلة اليوم، وبهذا أصبح الحارس في حقل الشوفان).

لا ينقطع البطل عن هجاء المظاهر المصطنعة لحياة المجتمع الأميركي، يسخر من أولئك الذين يتهافتون للحديث عن عدد الكيلومترات التي تقطعها سياراتهم بالليتر الواحد من البنزين، ثم ينصرفون للعب البريدج أو البيسبول بلا لياقة، ومن رواد نادي كتاب الشهر، أو المنبهرين بتمثيل عائلة “لنت” حين يعتبرونهم ملائكة، وصديقته “سالي” واحدة من بينهم. لكنه يقترح عليها أن تقاسمه حلمه في ترك مدينة نيويورك التي يكره، والتوجه جنوبًا نحو “ماساتشوستس” أو “فيرمونت” والعيش في كوخٍ خشبي على طرف بحيرةٍ ناعسة، يحدهم الشجر والهدوء طيلة الوقت. لكنها ترفض.

السخرية عند سالينجر ليست تكلفًا، وإنما طابعٌ أصيل من طباع شخصيته، ولولا ذاك؛ لما كان قد ألف بعفويةٍ مدهشة شخصًا رافضًا وساخرًا بمثل روعة “هولدن كولفيلد” الذي فضل أن يجعله شخصيةً تلقائية، عفوية، وذات وجدان عميق، لدرجة أن الكاتب حافظ على واقعية اللغة التي يمكن لفتى مراهق في نيويورك التحدث بها، حتى إن الشتائم الكثيرة التي جاءت على لسان “كولفيلد” لم تكن فجة، ومتسلطة على حشمة السرد، بل ظهرت كامتدادٍ مستحب لمنطق البطل، ولغة تفكيره، مثل ترديده الدائم لمصطلحات: “ابن الزانية”، “أبناء الزواني”، “اللعين”، “بحق الجحيم”، وتلك مفردات واسعة التداول في بنية الحوار لدى قسمٍ كبيرٍ من الأميركيين.

أمضى سالينجر طفولته ومراهقته في حي “برونكس” بنيويورك، ونشر العديد من القصص القصيرة، لكن قصته (يوم مثالي لسمك الموز) المنشورة في مجلة (نيويوركر) عام 1948 هي التي أذاعت شهرته بحق، وبعدها بثلاثة أعوام نشر روايته الوحيدة (الحارس في حقل الشوفان)، وكان من بين الجنود الأميركيين المشاركين بحملة “نورماندي” ضد ألمانيا النازية، وحينها التقى مصادفةً بالكاتب أرنست همنغواي، وظل هذا اللقاء المحبب حليفًا مضيئًا لذاكرته التي ارتاحت على ضفة العزلة، وبقيت رائقة كالماء حتى وفاته بوداعة، داخل منزله الكائن في “نيو هامبشاير” عام 2010، أما (الحارس في حقل الشوفان) فقد تأخرت لتصل مترجمة إلى القارئ العربي، وتتوفر منها ترجمة وحيدة صاغها باقتدار الروائي الفلسطيني الراحل غالب هلسا، وقد راعى في ترجمته حرمة اللهجة العامية لسكان نيويورك المعتمدة على لسان “هولدن كولفيلد”.


أيمن الشوفي


المصدر
جيرون