“فاتح المدرس” أيقونة الفن التشكيلي السوري



لم يحظَ فنان تشكيلي سوري بما حظي به الراحل الكبير الفنان فاتح المدرس، من محبة الناس وتقديرهم، وشغلهم بمفاتنه الإبداعية، وأسر عيونهم ومشاعرهم المنظورة، في لوحاته التصويرية مُتعددة المواضيع والخصائص والصنائع. شغل عقولهم بما كتب من مقولات ومآثر مُختصرة لكتب ومؤلفات، تلك التي كانت معلقة كمنشورات مُعبرة وموصولة بفوضى منظمة ومقصودة فوق جدران مرسمه الدمشقي، ودون ذلك من قصص صغيرة وحكايات، وبما سمعوا من تقاسيم موسيقاه الآسرة على آلاته الموسيقية، موسيقا الروح والفن. ومرسمه الذي عبّر في واحته جميع طبقات المجتمع السوري والعربي والدولي، كانوا ضيوفًا أعزاء. ساسة وأدباء، صحفيين ونقادًا. مسرحيين ومغنين وراقصين، وفنانين تشكيليين من مختلف الأماكن والأمصار. فقد كسب ود جميع من قابلهم في مسيرة حياته الدنيوية، الملونة بألوان لوحاته المجبولة بطيف قوس قزح مُتعدد الألوان. كان مبتدؤها في مسقط رأسه في قرية (حربكة) في شمال سورية عام 1922، ومنتهاها في حضرة المرض العضال بمدينة دمشق برحيله الجسدي عام 1999.

سنوات عمره الجسدي البالغة نحو سبعة وسبعين عامًا. تفتح سجل سيرته الذاتية المطوقة بأزاهير الياسمين الدمشقية المحمولة بسرب من الحمام الزاجل المُشبعة بالأخبار، فاتحة أبوابها وفصول حكايتها المُشرعة، على قامة فنية تشكيلية سورية، ما زالت لوحاته تنبض بالحياة، وآثاره تدون محاضر حضوره الدائم في محطات الثقافة البصرية، والمنتديات المحلية والعربية والعالمية شاهدة على مبتكراته ولوحاته وتقنياته ورموزه التي أمست مدرسة فنية متكاملة المواصفات، ومرجعية لكل عابر دارس من طلاب أقسام الرسم والتصوير، في واحة الدراسات الأكاديمية السورية الأولى والعليا، في الجامعات والمعاهد الرسمية والخاصة، ونقطة عبور لا بدّ منها في اكتمال مسيرتهم الفنية التشكيلية.

كان فاتح المدرس مجموعة متكاملة من المواهب والخبرات، وأشبه بمكتبة ثقافية فكرية وأدبية وتشكيلية متنقلة، ومفتوحة لكل الباحثين والدارسين في مجالات الفنون الجميلة والتجارب الإنسانية الخاصة والأذواق. دخل في واحة ابتكاره عشرات الأسماء الفنية التشكيلية، متأثرين ومُقلدين لمقامات وصفه البصري، وسابحين مهرة في تقنيات التعلم المسبوكة في نسيج مكونات عجائنه التقنية وأساليب كسوة طبقات لوحاته. راسمين بتلك المحاكاة التصويرية مدرسة فنية تشكيلية سورية، اسمها فاتح المدرس، جعلته أيقونة الفن التشكيلي السوري بلا منازع.

بدأت مسيرة خطوات مجده من بوابة الأدب والموسيقا، وانتهت بالفنون التشكيلية التصويرية، أستاذًا لطلاب الدراسات الجامعية الأولى والعليا، ونقيبًا للفنون الجميلة السورية، عقدًا من الزمن. أمسى أكثر المدرسين شهرة ما بين أقرانه في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق. وكثر عشاق فنه وأتباعه ومحبي فنه من الزملاء والطلبة الدارسين؛ لأنه ببساطة كان أكثر المُدرسين أُلفة وعطاء وإفادة. كان إنسانًا وفنانًا وأخًا للجميع، متمتعًا بكل مواصفات إنسانيته المحبة للذات، تحترم ذاتها وذات الآخرين، على قدم المساواة والمماثلة. كل من ولج مقامات مكتبه في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، أو مرسمه الدمشقي -الذي أمسى بعد وفاته صالة عرض تحمل اسمه- يتذكر ويشعر بأنه تشرف بدخول محراب كاهن الفن التشكيلي السوري الذي ينثر منارات ابتكاره، موسيقا لونية تزيد من جماليات المكان وفوضويته.

كان المدرس متمردًا على واقعه المجتمعي منذ طفولته، يمتلك جميع مقومات الحرية بكل مفاعيلها الوصفية. حرية القول والتعبير والتفكير والرسم والتصوير، رسمت معالمها في منثوره السردي ومقولاته المأثورة، وعبر لوحاته الخارجة عن سرب المدارس والاتجاهات المدرسية الأكاديمية، لتجعل من ذاتها التعبيرية مدرسة غير مسبوقة، في الفن التشكيلي المعاصر. لوحاته التصويرية الخارجة من قيود المحاكاة التماثلية للمناظر والشخوص، غير ملتزمة برتابة التصنيف المدرسي القسري، فهي سابحة في مجون حداثته الموصوفة، ومفاتن الابتكار الشخصي، لفنان له ورؤيته الخاصة في توليفات مسرود النصوص البصرية، تبني مدرسيتها الخاصة بتفرد خصوصيته، وطريقته المعهودة في رصف مقامات مكوناته المسكونة بعناصر وشخوص واستعارات لقصص وأماكن وشخوص وأساطير ومدائن، معجونة بتقنيات خاصة أيضًا، مُتجاوزة الخطوات الأكاديمية في بناء وكسوة اللوحات التصويرية، فهي عابرة للاتجاهات والمدارس والتجارب كافة. حطت رحالها في نهاية المطاف في رحاب التعبيرية الرمزية والتعبيرية التجريدية التي لا تشابه أحدًا، وهي لصيقة باسمه وحده دون سواه. تُتوِّج مسارات بحثه الذي مر عليه أكثر من خمسة عقود من الزمن، محددة أسلوبه وطريقة تعاطيه مع رموزه ومفرداته وخطوطه وكتله ومساحاته اللونية، مدرسة فنية بحد ذاتها.

لوحاته مفتونة بالاختزال الشكلي وأحاسيس الطفولة في عموم شخوصه ومكوناته، مرصوفة في كثافة الخطوط ومحددات المساحات المتناثرة فوق سطوح لوحاته، وبما تحمل في وجوهها الشكلية واختزالاتها المتواضعة في مساحات وتشكيلات تقنية متوازنة في تركمها ومقابلتها وتجاورها المكاني. شخوصه التي تشابهه في وجهه وتحمل مسحة تعبير طفولية، تعكس ذاته وروحه وشخصه في ثناياها، وتكون جميعها بمثابة تعبير بصري بليغ عن شخصيته المفتوحة على حرية الاختيار، تشدو تفاصيل الرؤى الوصفية التي يروم الوصول إليها في عين وبصيرة المتلقي.

ألوانه الحارة مُستعارة من أشعة الشمس السورية، والباردة مُتناسلة من الطبيعة وخيرات الفرات والمتوسط، والذهبية المتوالدة من رمال الساحل والبادية، لا تُغادر منابعها التعبيرية التصويرية الصوفية. صوفية القساوسة المتعبدين في واحة الفن التشكيلي، الذين يرسمون معالم النور والعتمة وتوزع الكتل والمساحات، وتبدي مقدرة الفنان على توصيف ولائم سرده البصري. تلك المتأتية من أدواته التي يقودها، والمشغولة بسرعة المهارة الفائقة المُختصرة للزمن والجهد والإمكانات، كنوع من الخبرة والدربة التي اكتسبها من خلال مُنادمته لسطوح لوحاته، وخطوطه وملوناته ومتواليات مواضيعه المتميزة المُعبرة عن فنان متميز. تخرج رموزه من شرانق الولادة المتدثرة بكسوتها اللونية ومسارات بيانها الخطي، مُبسطة المساحات التجريدية المطواعة لخدمة الفكرة المنشودة في لبوس إنسانية النبض والوهج والانفعالات، تختصر وطنًا بأكمله، وتجارب إنسانية سابرة لشفاف الأرض السورية، بكل ما فيها من سحر الشرق وجمالياته. فارسها التشكيلي دائم الحضور (فاتح المدرس) يمتطي صهوة لوحاته علانية أو استعارة رمزية أو مواربة، كامنة في ذات الفنان نفسه، الموجود في ملامح شخوصه ومكوناته، وكأن لسان حاله يقول: أنا أرسم وألون.. إذًا أنا موجود.

ولد فاتح المدرس في مدينة حلب عام 1922، تخرج من أكاديمية الفنون الجميلة في روما عام 1960، ومن المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس عام 1972، عمل أستاذًا في كلية الفنون الجميلة لغاية عام 1993. انتخب نقيبًا للفنون الجميلة في سورية لفترة طويلة. شغل منصب نقيب الفنانين التشكيليين السوريين. مثّل سورية في العديد من التظاهرات الفنية العربية والدولية. أعماله مقتناه من قبل وزارة الثقافة السورية – المتحف الوطني بدمشق – متحف دمّر – القصر الجمهوري. مارس التصوير وكتابة القصة والرسم الصحفي، كما قام بمحاولات فكرية ذات أهمية. أقام أكثر من أربعين معرضًا فرديًا وعشرات المشاركات الجماعية، داخل سورية وفي الدول العربية والعالمية، وهو حاصل على مجموعة من الجوائز الأولى والميداليات الذهبية والشهادات التقديرية، في سورية وإيطاليا وفرنسا والبرازيل والكويت وسواها.


عبد الله أبو راشد


المصدر
جيرون