غسان حمدان: التلذذ بالنصّ البديع



غسان حمدان شاعرٌ وروائيٌ ومترجمٌ ورسامٌ عراقي، ولد في بغداد عام 1973. درس علم الاجتماع في إيران، ودرّس اللغة الفارسية في جامعة دمشق. أنتج في مشواره الأدبي عددًا كبيرًا من الأعمال، بين شعر وقصة قصيرة ورواية، كان آخرها رواية (ريمورا). أما آخر إصدار شعري له فهو (مذكرات أمير متقاعد)، الصادر باللغة الفارسية في طهران في 2017. كما صدر له مؤخرًا عن (دار الجمل)، ترجمته لكتاب (عمر الخيام وأناشيده ورباعيات تترجم لأول مرة) لصادق هدايت، كما جمع وترجم للأخير (الأعمال القصصية الكاملة)، وترجم له من قبل رواية (البعثة الإسلامية إلى البلاد الإفرنجية). في ما يلي حوار معه خص به (جيرون):

– بداية أسألك ما هو سبب تخصيص ترجماتك من الفارسية إلى العربية وبالعكس؟

= إن الاستمتاع والتلذذ بالنصّ البديع لهو شيء جميل، ولكن أن تشاركه مع الآخرين فلذته أكثر من احتكاره لأنفسنا. طفولتي ودراستي كانت في إيران، فتعلمت لغتها، واطلعت على ثقافتها وآدابها. كانت لدينا مكتبة زاخرة بالكتب العربية، ولم نكن نجد غير عدد قليل من الروايات العربية مترجمة إلى الفارسية، وهذا كان حافزًا لي لاختار اللغتين. كما أنني بعد انتقالي إلى سورية، لم أجد رواية أو مجموعة شعرية مترجمة عن الفارسية. أغلب القراء والناشرين يتهافتون على الأدب الغربي واللاتيني. ومع أننا نعيش بجوار حضارة أخرى قريبة منا غير أننا لا نعلم الكثير عنها، وهذا يشمل الأدب الأفغاني والقرقيزي والهندي وحتى الإندونيسي.

على المترجم أن يقدم صورة لأدب الجوار وفكر مثقفيه.. نحن نعيش بجوار بعضنا، ويجب أن نهتم ببعضنا الآخر. ولكن قام الإعلام والسياسة بتشويه صورة الآخر، وجعلنا لا نرى إلا العيوب والكراهية. على الطبيب أن يعالج الجميع ولا يميز بين هذا وذاك؛ والمترجم -أيضًا- عليه أن ينقل الحالة الفكرية السائدة في الضفة الأخرى.. وفي سورية حيث كنت أقوم بتدريس اللغة الفارسية، كانت أواجه مشكلة كبيرة. أغلب الطلاب يعرفون القواعد اللغوية، ولكنهم لم يتمكنوا من فهم النصّ. فالأدب الفارسي بات يتجه إلى العامية والمصطلحات، ولم تكن هناك مناهج مخصصة لذلك، حتى لم تكن هناك دراسات ماجستير للغة الفارسية وآدابها. من هذا المنطلق تعد ترجمة الروايات بمثابة قاموس للمفردات والمصطلحات يمكن استخدامها بعد مراجعتها مع الأصل. وهناك الكثير من الطلاب والأساتذة الجامعيين الذين اختاروا ترجماتي وقدموا بحوثهم أو دراساتهم حولها.

– حدثنا عن بدايات دخولك عالم الترجمة وما تأثير والدك المترجم سليم عبد الأمير حمدان عليك في هذا الشأن؟

= كنت أهوى الرسم، ولم أتصور يومًا أنني سأتجه للأدب، مع أنني كنت شغوفًا جدًا بقراءة قصائد جلال الدين الرومي ومحمد إقبال.. إن اهتمامي بالترجمة كان مصادفة، إذ بدأت عندما استمعت لإحدى قصائد الشاعر الصوفي المعاصر سهراب سبهري، حيث طرح فيها الوحدة وقدسيتها؛ ما جعلني أفكّر بتحويلها إلى العربية. في تلك الفترة، بسبب اهتمام والدي بالأدب والروايات، كنا نملك المجموعة الكاملة لأعمال نجيب محفوظ، فبدأت التحدي: إن كان يمكنني أن أترجم قصيدة، فعليّ أن أترجم قصة ما، فاخترت كتاب (همس الجنون)، وهو أوّل كتاب للراحل نجيب محفوظ.. أتذكر أنني أنهيت المجموعة خلال شهرين، وبعد مراجعتها وتدقيقها ومساعدة أحد الأصدقاء الإيرانيين الذي أعطى ملاحظاته، سلمت المخطوطة لأحد الناشرين، وقد رحب بها ووافق على نشرها. ثم بدأت بترجمة رواية (بين القصرين) وأنهيتها وسلمتها للناشر، ولم أتمكن من إنهاء (قصر الشوق) بسبب بعض الظروف.

أما بخصوص والدي، فقد كان مترجمًا محترفًا يترجم عن اللغة الإنجليزية، إلا أنه علّم نفسه اللغة الفارسية، وشرع يترجم قصةً تلو الأخرى، حتى بدأ يترجم روايات تعدّ من كلاسيكيات الرواية الفارسية وقد نُشر أغلبها في مصر. يكمن الاختلاف بيني وبين والدي أنه كان يعارض ترجمة الشعر، في حين أنني بدأت مشواري في الترجمة بتعريب القصائد. وفي سنوات إقامتي في سورية، ترجمت ثلاث مجموعات شعرية، فضلًا عن مجموعة قصصية، وقد نشرت جميعًا في وزارة الثقافة السورية. لا أقول إني تأثرت بوالدي، فله أسلوبه الفريد ولي أسلوبي الخاص، وهو كان يترجم إلى العربية فقط، وأنا أترجم إلى اللغتين الفارسية والعربية.

– روايتا (وجه الله) للأديب الإيراني مصطفى مستور، و(البعثة الإسلامية إلى البلاد الإفرنجية) لصادق هدايت، كنت قد نقلتهما للعربية قبل ثلاث سنوات، ما الذي دفعك لترجمتهما؟

= (وجه الله) هي عن الشك؛ الشك في وجود الله. وتعالج الرواية ضمن سردها المآسي التي تحدث، متاهة بطلها الشكاك الذي لم يعد قادرًا على تقبل المصائب.. حين كنت في استراحة المدرسين، رأيتها لدى زميل إيراني كان يقرؤها، ولما استفسرت عنها شرحها لي ولمدرسين آخرين بشكل موجز، وأعجبتني فطلبتها منه… بدأت ترجمتها عام 2010 وأنهيتها بعد ستة أشهر، ثم أعدت قراءة الترجمة وتدقيقها في السنة التالية، وحين قدمتها للناشر كانت بوادر الحرب قد بدأت في دمشق، فاعتذر الناشر بسبب الظروف، وقد نشرتها أخيرًا في مصر، ولاقت هناك استحسانًا كبيرًا، وسوف نرى الطبعة الثانية لها قريبًا.

وأما رواية (البعثة الإسلامية إلى البلاد الإفرنجية) فهي تعد صرخة احتجاج من قبل صادق هدايت ضد رجال الدين.. مؤلفها يرى أسباب تخلف شعوب المنطقة، وخاصة إيران، في احتلال هذه الدول من قبل (حفنة بدو همجيين) تتناسى أو تتغابى، أن أهم حضارة إيرانية جاءت بعد الإسلام. وأن الفنون والعلوم والثقافة الإيرانية ازدهرت في ظل الحكم الإسلامي… على كل حال، هي رواية تحكي عن ذهاب مجموعة من رجال الدين إلى الغرب (الكافر) لنشر الإسلام. طبعًا، الرواية كتبت بأسلوب ساخر، وتحكي كيف سرق هؤلاء الشيوخ الأموال المخصصة، وقرروا البقاء في أوروبا، حيث تمرغوا في الذنوب والمعاصي… وكنت قد ترجمت بعض القصص القصيرة لهدايت حتى كلفتني (دار الجمل)، بترجمة هذه الرواية، وأتمنى أن أترجم باقي أعماله أيضًا.

– ترجمتَ حتى الآن أكثر من خمس عشرة رواية إيرانية تعدّ من كلاسيكيات الرواية في الأدب الفارسي، ونُشرت أغلبها في القاهرة، فهل لك أن تحدثنا عن أبرز هذه الروايات، وما هي الرواية التي تأثرت بها كثيرًا ولماذا؟

= الإجابة صعبة عن هذا السؤال، فأنا أرى الروايات التي اخترتها للترجمة تعد من الروايات المهمة في إيران، ولكن يمكننا الإشارة إلى أول رواية إيرانية ترجمتها وهي (عيناها) للأديب اليساري بُزُرک علوي، التي تروي قصة لوحة مجهولة والعودة إلى الوراء، ليكشف لنا عن رسام عبقري حاول أن يحارب الظلم المفروض على البلاد من قبل الملك المستبد. كما تكشف الرواية جانبًا عن الاستخبارات وتجسسها على حياة الشعب، والأهم من ذلك مراقبة نشاطات الطلاب في خارج البلاد. الرواية صدرت عام 1952 في فترة الانفتاح وحرية الصحافة أثناء النضال الوطني لرئيس الوزراء الإيراني الدكتور محمد مصدق الذي تمكن من تأميم النفط وانتزاع هذه الثروة من الاستعمار البريطاني. وقد أبدع علوي في سرد روايته بحيث جعلها لوحة فنية. وهو يأخذنا من خلال سرده الذي يبدو كضربات فرشاة رسم، وفي جو مشحون بالخوف وحب المغامرة إلى استكشاف المجتمع قبل عقود. والرواية الثانية التي ترجمتها بعد انتقالي إلى بغداد تاركًا دمشق، هي (طهران، الضوء القاتم)، وهذه الرواية تلقي الضوء على جانب من حياة المجتمع في الفترة الأخيرة من عمر النظام الملكي الذي اختطفت مخابراته شقيق بطل الرواية، ويسرد لنا الراوي الطفل حياة العائلة والجيران وبحثهم المستمر عن المفقود؛ إذ لا يعلمون أي شيء عنه، حتى يجدوه في الأيام الأخيرة للنظام، وقد أصيب بالجنون والكآبة. وقد منعت هذه الرواية، مع أنها تنتصر للثورة والنضال، بسبب الانتماء الحزبي لبطلها. نشرت الرواية في السنة الثانية لسقوط النظام الملكي، وكان الجو شاحنًا آنذاك، وكانت تجري عملية تصفية الأحزاب وقمعها، فلم تسلم من التعسف، ما اضطر مؤلفها أمير حسن چهلتن إلى نشرها خارج البلاد. الرواية الثالثة هي (الأوركسترا الليلية) للروائي المغترب رضا قاسمي الذي فضل الحياة خارج البلاد، بعد ما ضاقت به السبل أمام الرقابة المفروضة على مسرحياته وأعماله الأدبية. تروي هذه الرواية حياة لاجئ يعيش في مجتمع سكني بين أقرانه المغتربين وصاحب البيت الفرنسي. وبطل الرواية يشعر بالخوف والقلق، وقد أصيب بحالة رهاب ويتصور أن هناك من يترصد لقتله. كما أنه يقر بإصابته بأمراض نفسية ويعطي اسمًا لكل واحدة من حالاته. وهي رواية معقدة جدًا، لأنها تبدو غير متماسكة بسبب السرد الهذياني.

وأما بخصوص الروايات التي أثرت فيَّ، لا أفضل هذه العبارة… فأنا مؤلف أيضًا، أستفيد من نظرة المؤلفين للمجتمع وصراعهم الذاتي، وأحاول ألا أقلد أي منهم. على المؤلف أن يجد الطابع الخاص بنفسه الذي يقدمه كصاحب أسلوب خاص. مع هذا أقول هناك الكثير من الروايات الإيرانية والأفغانية والعربية واللاتينية التي أعجبتني بشدة، وتمنيت لو كنت أنا من كتبها.

– أترانا -العرب- مقصرين تجاه الاستفادة من الأدب الفارسي؟ وما أوجه هذه الاستفادة باعتقادك؟

= لسنا مقصرين فقط تجاه الأدب الفارسي، وإنما تجاه الآداب الشرقية وآداب دول الجوار. وهذا ينطبق على الإيرانيين أيضًا. أنا أعي جيدًا أن الكثيرين قد عزفوا عن القراءة، ولكن الذين يقرؤون لماذا يكتفون بأدب الغرب وأدب مؤلفي بلادهم فقط؟ إن كتّاب السودان وموريتانيا ربّما هم أفضل من كتّاب مصر ولبنان… نحن -العرب- لا نهتم بأدب دول الجوار، لا أقول أدب الشرق، وإنما الدول العربية الأخرى. لماذا؟ إن الانتباه لروائي يمني أو سوداني يحصل حين يشتهر أحدهم أو يترشح لجائزة ما.

في الآونة الأخيرة، تطور الأدب الفارسي كثيرًا، بخاصة في الرواية والمسرح. هناك مدارس أدبية جديدة يمكن أن نستفيد منها لنطور أدبنا. ما تمت ترجمته حتى الآن لا يشكل واحد بالمئة من الأدب الفارسي الحديث. الأدب العربي منكمش، فمثلًا لا نرى تغييرات جذرية في السرد الروائي ولا في الحبكة، لا نرى على سبيل المثال “تداعي الذاكرة” أو “سيل الوعي” في الرواية العربية، ولا ما يسمى بصوت الشخصية وتقنيات أخرى.

صحيح أن الأدب الفارسي تأثر بنظيره الغربي، ولكنه اتخذ طابعًا جديدًا ومستقلًا عنه. لا أطلب أن نقلد الأدب الفارسي ولا الغربي، بل أن نستفيد منهما لنحرك الركود في الرواية العربية، ونطور أسلوبنا الخاص… فالحبكة الروائية والسرد العربي ما زالا يتبعان المدرسة القديمة.

– لاحظت من خلال ما أسعفني الاطلاع عليه من ترجماتك أنك ابتعدت عن ترجمة النصوص العرفانية الفارسية، ما أسباب ذلك؟

= بصراحة، لا أسمي ذلك ابتعادًا، وإنما أعد نفسي لذلك قريبًا.. النصوص العرفانية، وبخاصة الكلاسيكية المكتوبة باللغة القديمة، تحتاج إلى فهم الكلام، والانتباه للمفردات، والأهم نقل المعنى المراد منها؛ إذ إن الكثير من النصوص العرفانية الفارسية مكتوبة بشكل غامض ومبطن، والقارئ الإيراني العادي يحتاج إلى قاموس للمفردات والمصطلحات؛ فضلًا عن كتب شرح وتفسير.. وقد انتشرت في الآونة الأخيرة في إيران كتب عرفانية مع شرح وتفسير نصوصها. على كل حال، ترجمت جزءًا صغيرًا من “مقالات شمس التبريزي”، وهو أستاذ جلال الدين الرومي، وأبيات الرومي نفسه، مع شعراء آخرين كحافظ الشيرازي وسعدي الشيرازي ومحمد إقبال وغيرهم، ونشرتها في بعض الصحف والمواقع… وأما عن ترجمة أمّات الكتب العرفانية والصوفية، فأقول إنه يجب التفرغ لهذه النصوص بشكل كامل، أي يجب أن أخصص وقتًا طويلًا، ربّما لبعض السنوات، لذلك فأنا حاليًا أترجم الكتب الأدبية المهمة، كي أتفرغ قريبًا للنصوص الصوفية والعرفانية.

– ما رأيك بما نقل إلى العربية من أعمال جلال الدين الرومي وبخاصة قصائده البديعة؟ هل من ملاحظات حول ما اطلعت عليه من هذه الترجمات؟

= هناك نوعان من الترجمة: ترجمة مباشرة عن الفارسية قام بها الدكتور عيسى علي العاكوب، وترجمة أخرى عن لغات وسيطة، قام بها عدة أشخاص. الترجمة الأولى هي الأصح والأكثر دقة، والثانية هي التي انتشرت بكثرة في مواقع التواصل الاجتماعي، من دون أن يكون هناك إشراف عليها ولا مطابقتها مع الأصل! وهؤلاء ليسوا من أصحاب الاختصاص. المشكلة تكمن في أن الطرفين لم ينتبها إلى موضوع أهم، وهو جمالية النصّ. أي لم يتمكن الطرفان من نقل مهارة الشاعر وصناعاته الأدبية، بل صبوا جل تركيزهم على نقل المعنى! جماليات التصوف تعود إلى القصائد البديعة، وهذا ما يميزها عن الأدعية والأوراد. صحيح أن التصوف يتلخص في معرفة سبل الوصول إلى “سر الأسرار” والتقرب من الربّ الخالق، وتفعل الأدعية ذلك أيضًا، إلا أنهما يختلفان في الأسلوب، وإن حوّلنا التصوف الشعري وحتى النثري إلى ترجمة غير أدبية، من أجل إيصال المعنى للقارئ، فإننا سنحول عظمة التصوف إلى كتابات عادية يهملها المرء بعد فترة قصيرة، لأنها فقدت جاذبيتها. من هذا المنطلق أخشى أنهم لم ينجحوا في نقل الذات الشعرية وجمالية النصّ الصوفي ورقته عند الترجمة، وجل اهتمامهم كان مشاركة الآخرين بهجتهم الناتجة عن قراءة النصوص الصوفية.. لذلك فإننا نجد ترجمات مختلفة ومتباينة للرومي..

أعتقد بشدة أنه يجب أن يكون تعاون خاص بين مترجم ومحرر وخبير في التصوف، لينجزوا نصًّا صوفيًا! بمعنى أن يترجم العمل تحت إشراف أستاذ جامعي أو من له صلة بالتصوف، ثم يقوم المحرر بتقديم النصّ بشكل يليق به.. فالنصوص الصوفية تعتبر كالدر النفيس وتحتاج إلى عناية خاصّة. والطريف أن نجيب محفوظ الذي أعده أستاذي في الكتابة، نقل في إحدى رواياته، ربّما (الحرافيش)، مقطعًا من قصيدة فارسية سمعها في خانقاه الدراويش، من دون أن يترجمها؛ حتى إنه لم يضع هامشًا يشرحها! لكن مع هذا أقول إن الترجمات كلها كانت ضرورية من أجل التعرف على المتصوفة الكبار؛ إذ هناك الكثير منهم لم يسمع بهم المهتمون العرب. على أن تكون هناك إعادة ترجمات مستقبلية دقيقة ووافية.


أوس يعقوب


المصدر
جيرون