العدالة الانتقالية



تُعرف الأمم المتحدة “العدالة الانتقالية” بأنها: “مجموعة كاملة من التدابير القضائية وغير القضائية لكفالة المساءلة، وتحقيق العدالة، وتوفير سُبل الانتصاف للضحايا، وتعزيز التعافي والمصالحة، ووضع رقابة مستقلة على النظام الأمني، واستعادة الثقة في مؤسسات الدولة، وتعزيز سيادة القانون”.

إن الانتقال من الحروب الداخلية والنزاعات المسلحة في دولةٍ ما، ومن عمليات الاضطهاد والقمع التي تمارسها نظم سياسية بحق مواطني الدولة وشرائح المجتمع المختلفة، إلى مرحلة سياسية وإدارية جديدة، يتطلب العمل على تحقيق نوع من العدالة، تختلف عن مفهوم طرح القضايا المتبع ضمن المحاكمات بالحياة الطبيعية، وهي نوع من العدالة التي ترافق عملية انتقال سياسي متكاملة، من مرحلةٍ ارتُكبت فيها جرائم ضد الإنسانية وانتهاكات واسعة للحقوق، إلى مرحلة جديدة يسودها السلم الاجتماعي.

تشير بعض المعلومات إلى أن مفهوم العدالة الانتقالية بدأ مع إطلاق (محاكم نونبيرغ)، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، حيث مثل أمامها من اتُهموا بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في أوروبا، وكان لها دور مهم في نشر الثقافة الحقوقية على مستوى العالم، وتم تدعيمها من خلال نشاط الحقوقيين في أوروبا، في منتصف القرن الماضي، مستندين إلى الدروس المستخلصة من ويلات الحرب؛ ليصبح لاحقًا مفهومًا حقوقيًا رئيسًا، خلال انطلاق حقبة الديمقراطيات، عقب الحكم العسكري في عدة دول، في العقود الأخيرة من القرن الماضي.

تبدأ العدالة الانتقالية، من خلال الاعتراف بحقوق الضحايا، وبالغبن الذي لحق بهم، ثم العمل على تعويضهم عنها بشكل معقول، ومحاسبة مرتكبي الجرائم، وذلك من أجل تخفيف حدة الاحتقان الموجود في النفوس إلى أقل درجة ممكنة؛ لزرع الثقة بين المواطنين، وإعلاء شأن القانون وقدرته على تثبيت الحقوق، والدفع باتجاه حياة مدنية ديمقراطية.

في هذا السياق، أكدت الأمم المتحدة على “أهمية معالجة مسألة سـبل الانتـصاف والجـبر لـضحايا الانتـهاكات الجـسيمة للقـانون الـدولي لحقـوق الإنـسان والانتـهاكات الخطـيرة للقـانون الإنـساني الـدولي، علـى نحـو منتظم، بطريقة شاملة على الصعيدين الوطني والدولي”، وتؤكد على “تعزيز التعافي والمصالحة، ووضع رقابة مستقلة على النظام الأمني، واستعادة الثقة في مؤسسات الدولة، وتعزيز سيادة القانون”. كما تعمل المفوضية السامية لحقوق الإنسان، من جانبها، على تقديم المساعدة في “وضع الأدوات المعيارية والعملية الخاصة بسيادة القانون، وفي تصميم وتنفيذ آليات العدالة الانتقالية”.

إن التركيز على مفهوم العدالة الانتقالية في الدول التي عانت شعوبها من الظلم، على الرغم من أنه وسيلة أساسية للمساعدة في الانتقال السياسي، يُعدّ ضرورة مهمة للمجتمع ككل، لإعادة الروح الجامعة إليه، حيث الجرائم المرتكبة دائمًا لها أثر تراكمي متتالٍ ومتشعب الأثر على مكونات المجتمع، ولهذا يتم العمل، من باب تطبيق مبدأ العدالة الانتقالية، لتحقيق المصالحات عامة، كي يتم تجنب أي ردّات فعل مستقبلية تعيد مشهد الانتهاكات من جديد، ولهذا يؤكد الخبراء على أهمية إصلاح المؤسسات المعنية، وبخاصة منها من ساهم في ارتكاب الانتهاكات والجرائم سابقًا، كالمؤسسات الأمنية والعسكرية وغيرها.

في سورية، ارتكب نظام الأسد، خلال عقود طويلة، جرائم كبرى بحق المدنيين، وتم توثيقها من قبل منظمات دولية ومحلية، كما سخّر كافة مؤسسات الدولة لصالح سلطته، ومارست بدورها كافة أشكال الظلم والاضطهاد بحق المواطنين، كالقتل والاعتقال والتعذيب وانتهاك الحرمات والحرمان من الحقوق الأساسية، كالتوظيف والعمل والتنقل والتملك وما إلى ذلك، ولاحقًا استخدم كافة صنوف الأسلحة، ومنها المحرمة دوليًا، وهدمت قواته المدن والبلدات، وهجرت السكان من مناطقهم، وسلبت ما تبقى من ممتلكاتهم.

كما ارتكبت عدة تنظيمات أخرى، وُجدت بشكل أو بآخر على الأرض السورية، انتهاكات خطيرة بحق المواطنين، وإن أي عدالة انتقالية لا تكتمل في حال العمل بها، إلا إذا تناولت كافة الملفات التي تعيد ثقة المجتمع بالدولة ومؤسساتها، وأيضًا ثقته بنفسه، بحيث لا تكون مهمات لجان العدالة الانتقالية انتقائيةً في معالجة القضايا، بل شاملة وعامة، كما أنها لا تتقيد بتاريخ محدد لصلاحية القضايا التي تنظر فيها.


حافظ قرقوط


المصدر
جيرون