مثلث برغوطا



اللجنة أبقت الأمر سرًّا بين أعضائها؛ كي لا يدبّ الذّعر في نفوس الجماهير، لا سيّما أن الجميع في هذه الجغرافيا البائسة خارجون لتوّهم من حرب مدمّرة، ليس لها شبيه في ما عرفته المنطقة من قبل. لكن التكتّم غالبًا لا يفيد إلا إلى حين، فقد خرج الأمر أخيرًا عن السيطرة، ثم انفلت في الأمكنة، ثم شاع وبات حديث الكبير والصّغير، بخاصّة أن حوادث الاختفاء الغريبة لم تتوقف. ضربت حوادث الاختفاء دوائر الحياة في الصميم، كما ضربت اللقاءات، والسهرات، والأمسيات. وتحرّكت في الأحياء والشوارع والمؤسسات والدوائر والبيوت، وفي كل مكان.

قبل حادثة الاختفاء الأخيرة، لم يكن أحد قد انتبه بعد إلى حقيقة الظاهرة. مدير جلسة “الحوار الوطني” ذكَر كلمة “الديمقراطية” خمس عشرة مرة أثناء النقاشات، واختفاؤه في اليوم التالي كان في حدّ ذاته بذرة الشكّ الأولى. هذه البذرة تحولت فيما بعد إلى تساؤل، ثم تقصّ، ثم نصف تصديق، ثم أخيرًا وصل الشكّ إلى مرتبة اليقين الكامل. في الواقع لم يبلغ الشك هذه المرتبة إلا بعد أن تم ربط حادثة اختفاء مدير جلسة الحوار بما تقدّمها، ثم بما تأخر عنها، ثم بعد ذلك بما تلاها على طول جلسات النقاش، وصولًا إلى هذا اليوم.

أول حادثة اختفاء بين وجهاء البلدة، كانت مع عضو الوفد المفاوض الذي ذكر كلمة الديمقراطية بدوره أكثر من خمس مرات، في حديث خارج الجلسات الرسمية. في اليوم التالي اختفى عن الوجود. في جلسة الأسبوع التالي اختفى عضو آخر…

يبدو أن كل من يلفظ هذه الكلمة مهدد بالاختفاء!

معقول أن تتحوّل كلمة “ديمقراطية” إلى غول؟

ذلك كان عنوان الجلسة المغلقة في (حزب التجمّع)! الذي خسر بدوره رئيسَه ثم المنظر الأول في فكره، وبدورهما اختفيا عن الوجود.. تيار (كلنا وطنيون) اختفى ثلاثة من أعضائه دفعة واحدة؛ على إثر مناقشة حامية في حقيقة الديمقراطية العربية الصاعدة، اختفوا تمامًا دون أن يستطيع أحد أن يعرف عنهم شيئًا على الإطلاق.

أكثر من محلل سياسي، وأكثر من باحث اجتماعي أو أكاديمي، وكثيرون ممن استضافتهم بعض القنوات الحوارية، أيضًا اختفوا مباشرة بعد انتهاء جلساتهم، أو هم في طريق عودتهم إلى بيوتهم.. مقدّم البرنامج الأسبوعي في قناة (الحرية قادمة) هو الآخر اختفى، وهو يقدم برنامجه على الهواء مباشرة!

لم يعد الأمر بحاجة إلى براهين ولا تأويل ولا جدل، كل من يذكر كلمة “ديمقراطية” على لسانه، بات معرّضًا لخطر ماحق، أما من يذكرها في اليوم الواحد أكثر من خمس مرات، فاختفاؤه عن الوجود شبه محتّم في اليوم الثاني!!

عشرات الشخصيات القيادية اختفوا في الأشهر الأخيرة أيضًا، دون أن يتركوا أي أثر، أو أي رسالة، أو أي خبر. فجأة، على حين غرة، ودون سابق إنذار، يغيب الواحد، يتوارى، يتبخّر، يذوب كما فص ملح في سطل ماء.

باتت حوادث الاختفاء حقائق، وبات معروفًا للدارسين والباحثين والأكاديميين أن هذه الكلمة مثل مغناطيس مجهول كبير، أو مثل ثقب أسود صغير… وهكذا كان لا بد من تعديل وجهات كل الاجتماعات والندوات والحوارات والاهتمامات والجهود الوطنية، باتجاه هذه الظاهرة، وتأجيل ما عداها! لا بدّ من الشغل والبحث والتقصّي، عسى يصل أحد ما إلى كشف النقاب عن حقيقة الأسباب وخلفيات هذا اللغز الممغنط.

أما تكفينا الحرب التي حصدت ربع الجماهير، وأقعدت ربعها، وهجّرت ربعها، ولم يتبقّ غير ربع أخير، حتى تأتي هذه اللعنة لتبدأ بحصد المثقفين الوطنيين ورؤوس الحالمين بمجتمع المساواة والعدالة؟

ها هي كلمة ديمقراطية مرة أخرى تتحول إلى كابوس يهدد رقاب الجميع!!

على وجه السرعة، تم تشكيل وفد  مشترك من كل التيارات والأحزاب والتجمعات والعقلاء، لأجل تدارس الظاهرة، وأعطيت له الصلاحية المناسبة، وحرية البحث والتنقيب والدراسة، ورصدت له الميزانية الوافية، كما سمح للوفد أن يستعين بخبرات محلية أو اقليمية بشرط ألا تكون مرتبطة بدوائر مشبوهة، كما سمح له أن يلتقي بمن يشاء من علماء الأرصاد أو الفلك أو التغيرات المناخية أو حتى خبراء الكوارث الطبيعية… لا بد من الوصول إلى المفاتيح، إلى الأسرار، أما يكفينا ما صار فينا جرّاء الثورات، حتى تأتينا هذه اللعنة التي لا يصدقها عقل، والتي ليس لها تفسير ولا تعليل ولا سابق وجود؟

هكذا بات لسان حال الجميع يلهج أو يفكّر أو يقول أو يغرغر

آخر ما اتّفق عليه الوفد، الذي آلى أن يطرق كل الأبواب، أن يغادر باتجاه لبنان الشقيق، سيعرضون المسألة على أهم عالم في الفلك وتحركات النجوم والمذنبات الشاردة!

في اليوم التالي، وصل الوفد وتم اللقاء وجرى التداول والحوار:

–  في الحقيقة أنا أنتظر قدومكم من زمان!

– من زمان!

– نعم من زمان، فلديّ معلومات متناقضة، لكني متأكد من أمر واحد على الأقل بشكل نهائي.

– ما هو؟ نطق أكثر من فم في وقت واحد.

–  يا إخوان! لقد دخلت منطقتنا في المثلث!

– في المثلّث؟

– نعم في المثلّث!!

–  أي مثلث؟!

– مثلث برغوطا!

–  مثلّث برغوطا!! وما هذا البرغوطا سيادة العالم؟

–   أكيد سمعتم ببرمودا!

– نعم، ولوووووو!

–  لكنكم لم تسمعوا ببرغوطا!

– لا، والله لم نسمع به من قبل!

– برغوطا يا إخوان برمودا آخر، يعني برغوطا أخو برمودا.

– أخوه؟

– تمامًا أخوه، بيد أنّ برمودا لا يكون إلا في البحار ومجاهل المحيطات! بينما برغوطا لا يكون إلاّ في البرّ والأراضي اليابسة!

– لا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم! ما هذا الكلام يا علاّم؟

– يا سادة يا كرام! بحسب علمي المتواضع في أسرار الأنام، مثلث برغوطا يتمدد في مساحة ثلاثة بلدان عظام، وله ثلاثة رؤوس بالتمام!

– ثلاثة؟؟؟

– نعم ثلاثة، رأس في بغداد العراق، ورأس في دمشق الشام، ورأس في أرز لبنان! لكن الأساس الأساس هو في بلاد السندباد!

– والعمل؟

– لا بد من السفر!

– إلى أين؟

– جهّزوا أنفسكم! غدًا إلى أرض الأجداد، وبعدها لكل حادث حديث.

– كأنك تتحدث بالألغاز حضرة العالم!

– هناك ستفهمون كل شيء بعون الله تعالى!

الوفد السوري، وفي مقدمته العالم الفلكي اللبناني العالمي، تحلّقوا حول قبر الحجاج بن يوسف الثقفي!

– هيّا احفروا!

– ماذا تقول؟ ولماذا نحفر؟ ثم ما علاقة هذا بمثلث برغوطا؟؟

– احفروا ولا تسألوا! إن كان موجودًا داخل القبر، فالمسألة بسيطة، ولن تتعدّى بضعة أشهر، يعود بعدها كل شيء إلى مجراه! أما إن لم يكن، فالمسألة معقّدة، فهو هذه المرة، إن خرج، فلن يخرج من دون العمامة!

–   وعن أي عمامة تتحدّثون، سيادة العالم؟

–  أما سمعتم بعمامة الاختفاء التي إن لبسها أحد عجزت عن مرآه العيون؟ ألم يضرب بها وجه المنبر في أول خطبة عصماء، عندما ولي الكوفة صارخًا بأعلى صوته:

أنا ابن جلا وطلّاعُ الثنايا          متى أضعِ العمامةَ تعرفوني

– نعم نعم..

– إن كان خرج من قبره، فهو يلبسها الآن. أنتم تعلمون كره الحجاج لهذه الكلمة، ولكل من يعلك فيها هذه الأيام. هذه المرة لن يرتاح قبل أن يتأكد أنه أبادها، ودحر أهلها لنصف قرن قادم على الأقل.


عبد الحميد يونس


المصدر
جيرون