انتخابات بدون منافس



في إحدى محالّ بيع الصحف الموجودة على أطراف ميدان التحرير في القاهرة، حيث انطلقت شرارة ثورة الشعب المصري التي أدَّت إلى الإطاحة بحسني مبارك، وفي مكان آخر، صحفٌ ممدودة على الأرصفة، وقد وضعت الأحجار فوقها، عليها كثير من العناوين الرئيسية مثل: (تفاصيل اللقاءات السرية بين المخابرات التركية وقيادات الإخوان)، وفي صحيفة أخرى، عنوان مشابه: (تركيا قامت بعمل كذا.. لزعزعة الاستقرار في مصر). أينما اتجهت أنظاركم في منصات البيع؛ وجدتم في الصحف اتهامات من هذا القبيل. والأمر نفسه حتى في البرامج التلفزيونية، الحوارية، الصباحية والمسائية.

الصحافة المصرية في وضعية التركيز على ما تعمله وتقوم به تركيا تجاه مصر، عبر “تنظيم الإخوان والتنظيمات الأخرى”، وبالطبع، فإن هذه الأخبار عارية تمامًا عن كل مصدر وعن كل دليل. غير أن الذي يبدو على هذه الصحافة أنها واثقة ومتيقنة من قدرتها على خداع الشعب المصري، ولذلك نراها تحشو “السبطانة” كل يوم بخبرٍ جديدٍ عن تركيا.

عند التجول في شوارع القاهرة واستطلاع الجو العام، قبيل الانتخابات الرئاسية في مصر، فإن أولى المشاهد التي ستظهر أمامكم هو ذلك المشهد.

المرشح المشترك للجيش والدولة، الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، سيتبارى مع نفسه في هذه الانتخابات. ومع استبعاد المُرَشحَيْن اللذين كانا يمتلكان إمكانية الفوز: أحمد شفيق وسامي عنان (أحدهما انسحب من السباق من تلقاء نفسه، والآخر اعتُقل)؛ بات السيسي الآن بلا منافس. ومهما حاول التخطيط للدفع بمرشح شكلي للمبارزة قباله؛ فإن الجميع يدرك أن ما يجري هو عبارة عن مسرحية ليس إلا. ففي بلد يسيطر الجيش فيه على كل مفاصل الدولة: (السياسية والاقتصادية والحياة الاجتماعية والمؤسسات الدينية) كمصر، فإن الانتخابات هي عبارة عن إجراءاتٍ شكليةٍ، وهي -وإن أجريت- لن تُغيِّر في الأمر شيئًا. ولكن لا يستقيم الوضع من دون إجراءها أيضًا، تجاه العالم الخارجي ولموجبات التمثيلية الديمقراطية.

بانقلاب الثالث والعشرين من تموز عام 1952 الذي أطاح حُكم الملك فاروق؛ استولت زمرة (الضباط الأحرار) على زمام السلطة في مصر، وقامت بتغيير نظام الحكم فيها من ملكي إلى جمهوري. بعدئذ، أصبح الجنرال محمد نجيب، الذي كان يلقى احترامًا كبيرًا في صفوف الجيش بسبب خبرته وسنّهِ، أول رئيس للجمهورية في المرحلة الجديدة. لكن بعد فترة وجيزة، قام جمال عبد الناصر بانقلاب داخلي غير دموي، على محمد نجيب، ليمسك في يده مقاليد الأمور في البلاد. وعلى الرغم من كون محمد نجيب شخصيةً عسكريةً، فإنه كان يحمل فكرًا مدنيًا وديمقراطيًا. وكان بإمكان مصر بقيادته أن تكون دولة أخرى، مختلفة تمامًا، لكن عبد الناصر فوًت على البلاد هذه الفرصة، وأهدرها.

الأسطورة الكبيرة التي أحاطت باسم عبد الناصر، برفعه لواء القومية العربية من جانب، وإطلاقه الإرعادات والتهديدات لجيرانه العرب و(إسرائيل) من جانب آخر، انهارت تمامًا بعد الهزيمة التاريخية التي تعرضت لها مصر أمام (إسرائيل) في حرب عام 1967. ولم يتبق من عبد الناصر الذي عمل في سبيل تعزيز سلطته، على سحق كل القوى والكيانات المعارضة في الداخل، وعلى رأسها جماعة (الإخوان المسلمون)، إلَّا “دولة الرعب والخوف” بكل ما تحمله الكلمة من معنًى. حيث امتازت هذه المرحلة بدخول الأزهر والجماعات الدينية تحت سيطرة وسلطة الدولة.

أنور السادات الذي سعى، بمجرد استلامه الحكم في العام 1970، إلى محو آثار عهد عبد الناصر، حقق نجاحًا كبيرًا؛ بعد إحراقه تسجيلات التنصت على المكالمات الهاتفية الباقية من العهد السابق، أمام الصحفيين، وإجباره (إسرائيل) على التقهقر والانكفاء، في حرب أكتوبر عام 1973 (يوم كيبور-الغفران) وتمكنه من استعادة شبه جزيرة سيناء المحتلة، ومن ثم توقيعه على معاهدة السلام. وقد حاول استخدام الشعبية التي اكتسبها على مستوى الجماهير، في القفزة الاقتصادية. ولكن سياسة الانفتاح التي أطلقها بعد ذلك زادت من ثراء الطبقة الغنية، ومن افتقار الطبقة الفقيرة، ما أدى إلى زوال واندثار الطبقة الوسطى تمامًا، وقد كانت موجودة في مصر بشكل من الأشكال في ذلك الوقت؛ وتحولت الشقوق الاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك الحين إلى شروخ عميقة، نتيجة لذلك.

أما عهد حسني مبارك الذي استمر ثلاثين عامًا، بدأت بمقتل السادات في عام 1981 وانتهت بانفجار الربيع العربي، كان تمامًا مرحلة “ماكياج” في المجال السياسي والاقتصادي وفي العلاقات الدولية. ولكيلا يلقى مبارك عاقبةَ من سبقه، أدار البلاد بموجب أحكامٍ عرفيةٍ، وأهدر فرصًا لا تعدُّ ولا تحصى، لرفع الظلم الاجتماعي الموجود، وأفسح المجال لتغلغل الجيش حتى في “الشعيرات الدموية” لمصر، ولما كانت الدائرة في الربيع العربي على مصر. استطاعت قيادة الجيش استخدام ردة الفعل الشعبية والتعامل معها بحرفية كبيرة؛ للحيلولة دون وصول جمال مبارك الابن إلى كرسي الحكم الذي كان يتقدم نحوه رويدًا رويدًا، وعبَرت البلاد إلى الديمقراطية. لكن هذه التجربة الديمقراطية، وكما تابع كلنا عن كثب، انتهت بالتذكير مرة أخرى بأن الجيش هو حاكم وقائد هذه الدولة من جديد.

يبدو أن خلاص مصر من سيطرة الجيش، في المنظور القريب، أمر غير ممكن، ذلك بأن الجيش الذي يستغل فقر الجماهير الشعبية وجهلها، هو في غاية السعادة والسرور، من بقاء الناس في حاجته، نتيجة الفاقة والبؤس والشقاء الجماعي الذي يعمل على تغذيته. (شاهدت بأم عيني كيف يقوم الجيش بتوزيع اللحوم على الشعب في شاحنات صغيرة في السيدة زينب، إحدى الساحات العامة في القاهرة). والإعلام هو المساند الرئيس للجيش في تنويم الشعب وإرقاده، وأن الأمل بالخلاص الاجتماعي في بيئة سوسيو-اقتصادية كهذه، بأفكار مثالية وتدبُّرات سامية، لا تتعدى كونها حلمًا جميلًا، مع الأسف.

الديمقراطية في الوقت الراهن ليست من بين أولويات مصر، سواء على مستوى الدولة (الجيش) أو على مستوى الغالبية العظمى من الشعب.

خلاصة القول، عند إعداد برنامج أو خطة أو تأسيس سياسة تتعلق بمصر، وعند موازنة علاقات القاهرة وارتباطاتها الإقليمية والدولية، فمن الجدوى، التفكير مرارًا ومرارًا بحقيقة أن هذا الجيش هو القوة العظمى والأكثر شيوعًا وانتشارًا في هذه الدولة.

العنوان الأصلي Rakipsiz seçim الكاتب Yazarın adı: Taha Kılınç المصدر Kaynak: Yeni Şafak gazetesi 03.02.2018 الرابط https://www.yenisafak.com/yazarlar/tahakilinc/rakipsiz-secim-2044240 المترجم علي كمخ


علي كمخ


المصدر
جيرون