عفرين: تقاطع المصالح والخيارات



بدأت تركيا في 20 كانون الثاني/ يناير معركة عفرين المستمرة حتى الآن، بزعم القضاء على (وحدات حماية الشعب) الكردية، وبقايا عناصر (داعش) “الإرهابيتين” في المنطقة، خاصة أنها تعدّ (حزب الاتحاد الديمقراطي) امتدادًا لتنظيم (حزب العمال الكردستاني) في تركيا، المصنف عندها كتنظيم إرهابي.

مع أن عفرين منطقة سورية يقطنها أكراد سوريون، وهي تقع على الحدود الجنوبية لتركيا، لكنها تخضع لتنازع ثلاث إرادات ومصالح، يعدّها البعض متناقضة، وهي النظام السوري وتركيا ومشروع “الإدارة الذاتية” لـ (حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردي. أسوة بحال الأكراد عمومًا، والذين ظُلموا بالمعنى التاريخي من قبل كل جيرانهم الترك والفرس والعرب، حيث تشظت أراضي “كردستان”، وفق المصالح الدولية بين دول وجغرافيات، لم تراع مصالحهم كشعب أبدًا.

تاريخ طويل من الانتفاضات ومن القمع للحركة الكردية في سورية، التي تبلورت في المحصلة مع اندلاع الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، بهيكليتين اثنتين: الأولى هي “حزب الاتحاد الديمقراطي” في سورية (P.Y.D) الذي تأسس عام 2003، لينتخب صالح مسلم في المؤتمر الرابع عام 2010 رئيسًا للحزب، وهو ما تُجمع المصادر الكردية على أنه استمرار سوري لحزب (P.K.K) التركي، وأن مرجعيته ما تزال عند جميل بايق في جبال قنديل، مع نفي ذلك من قبل الحزب طبعًا.

الهيكلية الثانية التي انضوت لاحقًا تحت مسمى (المجلس الوطني الكردي) الذي ضمّ 16 حزبًا كرديًا، حين تأسيسه عام 2012 في أربيل، بدعم من مسعود البرزاني، لكنه فشل في إقامة ذراع عسكري له، بل تعرّض لإغلاق حتى مكاتبه السياسية من قبل (قوات سورية الديمقراطية/ قسد) وجهازها الأمني “الأسايش” التابعين لـ (حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردي.

إشكالية تركيا أنها لا تستطيع النظر إلى الملف السوري، بعيدًا عن علاقته بأكراد تركيا، وهذا له جذر موضوعي، وتداعيات سابقة ولاحقة أيضًا، مع أنه سبق لأردوغان أن بدأ سلسلة إصلاحات بخصوص المسألة الكردية تحديدًا، في فترة ترأسه للحكومة التركية بين عامي 2003-2014، عملًا بنظرية تصفير المشكلات السياسية، لدعم عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ودعم الاستقرار عمومًا.

شكّلت العلاقة مع سورية حلقة مهمة، في إطار الإصلاحات التي بدأها أردوغان، فهي موضوعيًا بوابته باتجاه المنطقة العربية، حيث بلغت الصادرات التركية عبر سورية 40 بالمئة من إجمالي صادرات تركيا، إضافة إلى تعزير دور القطاع السياحي، وتنشيط التبادل الثقافي والسياسي.

في الموضوع الكردي، أعاد أردوغان للكثير من المدن والقرى أسماءها الكردية التي حُظرتْ سابقًا، ضمن موجة التتريك القسري، وسمح رسميًا باستخدام اللغة الكردية في الكتابة والخطابة، كما أطلق في مطلع عام 2009، عبر دائرة الإذاعة والتلفزيون الرسمية TRT، أول فضائية تبث باللغة الكردية على مدار الساعة، سُمّيت القناة السادسة TRT6، وافتتح أردوغان البث فيها بكلمة قرأها باللغة الكردية.

لقيَت هذه الإصلاحات ترحيب الاتحاد الأوروبي، الذي أعلن عام 2009 إسطنبول عاصمة الثقافة الأوروبية، وبدت تركيا لأول مرة قادرة على قطع الشوط المتبقي باتجاه النادي الأوروبي في بروكسل، مع وجود تخوفات من أن يستغل أردوغان الشرط الأوروبي لحرية الاعتقاد والعبادة، لتسهيل عمليات أسلمة الدولة التي يطمح لإنجازها، وللتخلص من دور العسكر غير المرغوب فيهم أوروبيًا، في حماية الدستور العلماني أيضًا، غير أن الرياح جرت بما لا تشتهيه سفن أردوغان؛ إذ بدأ خلط الأوراق مجددًا في المنطقة، مع اندلاع ثورات الربيع العربي، وأحداث سورية بشكل خاص.

في البداية، لم يمنع ذلك أردوغان من المضي في خطوة مهمة باتجاه الموضوع الكردي، حين قدم اعتذارًا رسميًا -لأول مرة باسم دولة تركيا- في اجتماع لحزب العدالة والتنمية في أنقرة، في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، بخصوص المجازر والأحداث المأسوية التي ارتكبتها الحكومة التركية بين سنوات (1936- 1939) كردّ على تمرد الأكراد العلويين في منطقة “درسيم”، وهو ما قوبل بترحيب الكثير من أكراد تركيا، وصولًا إلى رئاسة إقليم كردستان العراق.

في هذه الأثناء، استفاد “حزب الاتحاد الديمقراطي” من حالة الثورة السورية التي اندلعت في آذار/ مارس 2011، لينسج تحالفين متناقضين: الأول (وهو الأساسي) غيرُ معلن مع النظام في دمشق، سمح له بالسيطرة على مناطق ذات أغلبية كردية شمال سورية، إضافة إلى التحالف الآخر المعلن مع “هيئة التنسيق الوطنية”، كجزء من المعارضة السياسية في سورية، وسمّي صالح مسلم نائب رئيس الهيئة، إضافة إلى تحالفات دولية مع كل من روسيا والولايات المتحدة الأميركية، بهدف محاربة (تنظيم الدولة الإسلامية/ داعش) في العراق وسورية.

لكن سياسات (حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردي كانت تضمر ما هو أكثر من ذلك، إذ اجتمع حزب “الاتحاد الديمقراطي” بتاريخ 17 آذار/ مارس 2016 في مدينة (الرميلان) النفطية التابعة للحسكة، وأعلنوا إنشاء نظام فدرالي في مناطق سيطرتهم شمال سورية. استتبعه تشكيل مجلس تأسيسي للفدرالية ونظام رئاسي مشترك، يضم ثلاث مقاطعات ذات الأغلبية الكردية، وهي: عين العرب “كوباني” في ريف حلب الشمالي، وعفرين بريف حلب الغربي، ومنطقة الجزيرة في محافظة الحسكة، إضافة إلى المناطق التي سيطرت عليها (قوات سورية الديمقراطية) بداية 2016. وأجروا انتخابات نيابية، وشكلوا إدارة ذاتية وأجهزة أمنية “الأسايش”، إضافة إلى (قوات سورية الديمقراطية/ قسد)، بالتزامن مع وجود مؤسسات نظام الأسد في تلك المناطق.

بالمقابل، كان أردوغان قد سار شوطًا أكبر باتجاه تعديل الدستور، وإقامة نظام رئاسي يمنحه سلطات واسعة، منذ أصبح في عام 2014 أول رئيس منتخب لتركيا، وقد أسعفته الظروف التي أحاطت بالمحاولة الانقلابية الفاشلة يوم 15 تموز/ يوليو 2016؛ ليقول في أول خطاب له بعد الأحداث: “إن البلاد لم تعد كما كانت من قبل”.

فخلال أيام قليلة، تم اعتقال أكثر من ثلاثة آلاف عسكري من كبار قادة الجيش والضباط والجنود، بتهمة المشاركة في الانقلاب الفاشل، كما بدأت السلطات حملة واسعة النطاق في مجال المؤسسة القضائية، فعزلت نحو ثلاثة آلاف شخص من القضاة وممثلي الادعاء من مناصبهم وأمرت باحتجازهم، وربما وجدت أرقام موازية في حقلي التعليم والإعلام، حيث ترافقت هذه الحملة بإغلاق العديد من الفضائيات والصحف والمنابر الإعلامية، إضافة إلى إغلاق الكثير من المدارس الخاصة ومعاهد التعليم، على خلفية وجود صلات تمويلية برجل الدين المقيم بالولايات المتحدة فتح الله كولن، وجرى إعادة هيكلة الجيش وتغيير الدستور.

سارع أردوغان بعد ذلك إلى لقاء روسيا، بعد أن رفضت أميركا أخذ خطوطه الحمراء، بخصوص المسألة الكردية، بالحسبان، أو مشروعه لإقامة منطقة عازلة شمال سورية، كان يمكن لها لو أقيمت عام 2012 أن تغيّر كثيرًا في مجرى الأمور لاحقًا، في حين استسلم (حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردي لتحالفات ووعود هشة، لم ولن تقي الأكراد في عفرين أو سواها من جحيم الحرب الدائرة في سورية، والتي ما زال كل السوريين يدفعون ثمنها، في إدلب وفي ريف دمشق وفي درعا وفي كل مكان.

فهل نستمر في هذه العطالة التي ثمنها دماؤنا كسوريين؟ أم نستطيع كسوريين، بكل تلويناتنا المجتمعية والقومية والدينية، في المعارضة وخارجها، اكتشاف سوريتنا في رحم المواطنة التي نادت بها الثورة السورية في بداية انطلاقتها، حين رفعت شعار: “واحد.. واحد.. الشعب السوري واحد”.


أنور بدر


المصدر
جيرون